علي سلطان: إنك أفضل بكثير من بعض علماء الدين المسلمين

علّي سلطان.. بحّار من باكستان، هكذا عرّفنا به شربل عندما كتب عنه في مجلّة أميرة، العدد 11، كانون الأول 2000، وإليكم بعض ما كتب:
"الكل يعلم أن ديواني مناجاة علي قد ترجمه إلى الإنكليزية السادة: ناجي مراد، إيلي شعنين وجو اليموني. وإلى الفرنسيّة الأستاذ عبد اللـه خضر، وإلى الإسبانية الصديق إبراهيم سعد. وها هو السيّد علي سلطان قبطان إحدى السفن القادمة من باكستان إلى أستراليا، يطلب مني أذناً بترجمة (المناجاة) إلى الباكستانيّة (الأرديّة)، ليتنعّم بقراءته معظم شعوب الكون، على حدّ تعبيره.
والقصّة بدأت عندما ذهب علي إلى مكتبة سيدني العامّة، وراح يفتّش بالكومبيوتر عن كتاب نهج البلاغة للإمام علي باللغة الإنكليزيّة. ولمّا لـم يجده، طبع على الشاشة اسم Ali، فإذا باسم ديواني مناجاة علي المترجم إلى الإنكليزيّة، يتراقص أمامه كأشّعة الشّمس فوق مياه الغدير. فطلب الديوان، ولكن الموظّفة أمهلته بعض الوقت، حتّى يُحضروه له من مكتبة أخرى.
وما أن بدأ بتصفّح الديوان حتى بدأت الدموع تنساب على خدّيه، وأحسّ بشغف شديد لاقتناء الكتاب، فسأل الموظفة إذا كان بإمكانه شراؤه، فسمحت له فقط بتصوير عدد قليل من صفحاته.. فما كان من علي سلطان إلاّ أن صوّر عنواني، وأرسل لي رسالة من باكستان يطلب منّي فيها شراء نسخة من مناجاة علي بالثـمن الذي أحدّده. فأرسلت له نسخة منه بلغاتها الأربع، ففرح بها أشد الفرح، وسمح لجميع سكّان منطقته أن يصوّروه ويتناقلوه ويعلّموه لأطفالهم.
وراحت الأيّام والأسابيع والشهور تتسابق، وراحت الرسائل والإتصالات الهاتفية تصلني منه، إلى أن دق جرس بيتي منذ أسبوعين، ففتحت الباب وأنا أسأل: من الطارق؟.. فإذا بصوت غريب يتناهى إلى مسمعي قائلاً: أنا علي سلطان من باكستان، تركت سفينتي المسافرة غداً وجئت لأراك..
تطلّعت به عدّة مرّات قبل أن أسأله الدخول. فلقد أحسست أنني في حلم، وأن من أرى لا يعقل أن يصل إلى بيتي على حين غرّة.
ـ من أوصلك إلى هنا؟ سألته.
ـ رجلاي.. جئت ماشياً من محطة قطار ماريلاندز ، لأن الباص أقلع قبل وصولي بلحظات.
ـ وكيف عرفت أنني في البيت؟
ـ كنت أصلّي طوال الطريق كي أراك..
ـ صدّقني أن صلاتك قد استجيبت.. لأنني وصلت منذ دقائق، وكنت على أهبّة المغادرة بعد دقائق. فما رأيك لو شاركتني طعام الغداء، كي نربح الوقت؟
تطلّع بالطاولة، فوجد عليها طنجرة مليئة بمحشي ورق العنب، فسألني: ما هذا؟ فقلت له: كُل دون أن تسأل.. إنه طعام لذيذ للغاية. فأكل، وأكل، وأكل حتى شبع، وهو يتمتم: الأكل اللبناني شهي جداً.
وبخبرة الطبّاخ المتمرّس، راح يسأل زوجتي ليلى عن كيفيّة تحضير ورق العنب وطبخه.. وما هي أنواع البهارات التي تستعملها، وكيف تقوم بتقطيع اللحم إلى فرم صغيرة. وأعتقد أنه سجّل (الطبخة) في رأسه دون أن يستعين بقلم وورقة، لذكائه النادر.
وما أن بدأت الشمس بالرحيل، سألني أن أوصله إلى أقرب محطّة قطار، فقلت إنّها على مرفأ (بوتني)، فضحك وقال: هناك ترسو سفينتي. فقلت: سأوصلك إلى هناك، فما رأيك؟. فابتسم وقال: شرط أن تزور وليلى سفينتي".
ومن رسائل علي أختار هذه الرسالة المؤرخة في 25 آب 1999، والتي عملت على ترجمتها إلى العربيّة مع ما باقي رسائله:
"عزيزي شربل
حفظك اللـه سالماً، آمين.
قد تكون هذه الرسالة مفاجأة لك، خاصّة وأنها وصلتك من هذه الأرض البعيدة. لقد أعجبت كثيراً بديوانك مناجاة علي، بعد قراءتي له في سيدني، التي زرتها خلال رسوّ سفينتي في مرفإها لعدّة ساعات.
لقد أخذت عنوانك من الكتاب، وحاولت جاهداً أن أجد الكتاب في مكتبات سيدني لأشتريه، ولكن دون جدوى. لذلك سأكون ممنوناً إذا تلطّفت بإرساله إليّ موقّعاً منك، وسأدفع ثـمنه مع كلفة توضيبه وإرساله. لأنه تحفة أدبيّة رائعة. كما أمنّي النفس بمعرفتك، واللقاء بك متى سنحت لي الفرصة بزيارة أستراليا.
إقبل مني تهنئتي الخالصة على نتاجك هذا، الذي أنتظر وصوله إلي بفارغ صبر".
وبالطبع، فقد أرسل له شربل الكتاب مجاناً، وبسرعة البرق، وبالسرعة ذاتها شكره علي على هديته الثـمينة، بهذه الرسالة المؤرخة في 7 تشرين الأول 1999:
"السلام عليكم..
لقد استلمت منك أجمل هديّة في نهاية هذا القرن، إنها، وبحق، هديّة القرن. لذلك أحب أن أشكرك، وأن أطلب من اللـه أن ينعم عليك بالصحة والرفاهيّة.
لا أجد الكلمات المناسبة التي بإمكاني أن أعبّر بها عن إعجابي بكتابك، فأنا أعلم تماماً أن الكلمات تخذلنا لحظة تصوير ونقل عواطفنا. صدّقني، إن الدموع انهمرت على وجنتيّ عندما قرأت مزاميرك. ولقد أبدى أبي وزوجتي وإخواني، وأخواتي، وأقاربي إعجابهم الشديد بكتابك. إنه، بنظري، تطهير للنفس من أوساخ هذه الحياة، وإنك أفضل بكثير من بعض علماء الدين المسلمين.
أرسل لك خطبتين لسيّدي عليّ، لـم يطّلع عليهما سوى القلائل من الناس، وكما فهمت من كتابك أنك كتبته باللغة العربيّة، وقام بترجمته إلى الإنكليزيّة السادة ناجي مراد، إيلي شعنين وجوزيف اليمّوني. لذلك ستجد في الخطبة الأولى أن حرف (الألف) قد أسقط منها تماماً، وفي الخطبة الثانية لا توجد أحرف عربيّة منقّطة. ولقد اكتشفت هاتين الخطبتين أثناء قيامي بدراسة عن العقل البشري، وأعتقد أنك ستفرح بحصولك عليهما.
كما أن عندي الكثير الكثير من هذه الخطب التي قد تحدث ثورة في عالـم الكلمة والدين، ولكنني أتحيّن الفرص المناسبة للكشف عنها.
إذا زرت أستراليا، إن شاء اللـه، سأتصل بك لأشكرك شخصياً على إرسالك لي هذه القطعة الأدبيّة النادرة".
لقد اعتبر علي سلطان، الذي يمضي معظم وقته معلّقاً عينيه على صفحات الكتب لبلوغ الحقيقة والكمال، أن شربل بعيني أفضل بكثير من بعض علماء الدين المسلمين، إذ أنه، أي شربل، تكلّم عن علي بن أبي طالب بتجرّد وبانفتاح لـم يجدهما علي سلطان عند علماء دين من المفروض أن يكونوا منزهّين، وبعيدين عن الطائفيّة البغيضة التي تعمي صاحبها. ولهذا طلب من شربل إرسال المناجاة للعديد من أصحابه المنتشرين في أصقاع الدنيا. وإليكم ما كتب في التاسع من كانون الثاني 2001:
"أخي العزيز شربل بعيني
حماك اللـه، آمين.
أتمنى أن تكون بخير وعافية. لست أدري إذا كنت قد استلمت بطاقة عيد الميلاد في الوقت المحدد أم لا. على كل حال انتقلت الآن إلى سفينة أكبر من الأولى بثلاث مرات. وأثناء عودتنا من سيدني انتشلنا من الغرق 16 شخصاً، غرق زورقهم، وراحوا يصارعون الموج في طقس عاصف، وهم يتمسّكون بقطعة فلّين. واحد منهم قضم الشّرك رجله، ولكنه تمكن من النجاة. عندي الكثير من القصص لأخبرها لطلاّبك، أنقل لهم محبّتي.
كيف حال زوجتك ليلى، لها منّي أطيب التمنيّات. كما أنني سعيد لتمكنّي من زيارتك في سيدني، وإلاّ لكنت حُرمت من التعرّف إليك شخصياً. كما أنني ممتنّ كثيراً لسماحك لي بنقل كتابك مناجاة علي إلى لغتي. سأبدأ بالترجمة حال وصولي إلى بلادي.
لقد تكلّمت عن كتابك مع عمّي الذي يعيش في الولايات المتحدة الأميركيّة، كما أخبرته عن لقائي بك، وعن استضافتك لي بترحاب شديد. ولقد وجدته مهتماً كثيراً بالإطلاع على الكتاب، فهلاّ أرسلت له نسخة منه بالبريد، مع الشكر سلفاً.
لقد انتقلت إلى سفينة أخرى، لأن سفينتي تخضع للتصليح في سنغفورة، ومتى عدت إلى سيدني سأتصل بك مجدّداً بإذن اللـه.
أنا متأكّد من أنك أرسلت الصور التي التقطتها لي في منزلك وعلى ظهر السفينة إلى عنوان منزلي. أما إذا كنت لـم ترسلها، أرجوك أن تزوّدني بها لضمّها إلى مجموعتي المصوّرة.
سوف لن أنسى زيارتي لمنزلك، والطريقة التي وصلت بها إليك، والترحاب الذي استقبلتني به، وإطعامي من مأكلك، واصطحابي لزيارة مدرستك وكنيستك في هاريس بارك. ثـم إرجاعي إلى سفينتي. كل هذا سيبقى في ذاكرتي إلى الأبد".
وكما هو معروف، فلقد علقت سفينة علي سلطان على صخور منطقة (الكورال) المحميّة بيئيّاً، وأحدثت هزّة إعلاميّة عالميّة، وكلّفت ملايين الدولارات من أجل إنفاذها دون أن تتشوّه معالـم تلك المنطقة البحريّة النائية في أستراليا.
ومن رسائل عمّه مظفّر حمداني الموجود في الولايات المتحدّة الأميركيّة، أختار رسالة وصلت إلى شربل بتاريخ 30 آذار 2001، وفيها يقول:
"عزيزي شربل بعيني
أتمنّى أن تصلك رسالتي وأنت بتمام الصحة والعافيّة. لقد استلمت كتابك مناجاة علي في الثالث من آذار، مع تمنيّاتك لي بخط يدك، فألف شكر لك على قطعتيك الأدبيتيّن: الإهداء والكتاب، الذي يقدّم للإنسانيّة خدمات عظيمة، خاصّة وأنه تُرجم من العربيّة إلى الإنكليزيّة والفرنسيّة والإسبانيّة، ونُشر في كتاب واحد.
الإسم، الورق، الطباعة، الإخراج وغيرها، أضفت على الكتاب رونقاً، وجعلت منه تحفة أدبيّة رائعة.
أنا على يقين تام من أن العالـم المتحضّر والمثقّف، سيكون بإمكانه فهم الحقيقة واستيعابها، من خلال الإطلاع على كتابك المفعم بالحقيقة. وبما أنني لا أفهم ولا أقرأ سوى الإنكليزيّة، أعترف بأن نقل أي عمل أدبي إلى لغة أخرى يعتبر معجزة حقيقية، فكم بالأحرى إذا كانت الترجمة تتـم بلغات لا تعتبر سهلة على الإطلاق. لهذا أعترف أن مترجمي كتابك قد قاموا بعمل جيّد يشكرون عليه.
كم كنت أتمنى أن أصبح ضليعاً باللغة العربيّة، ولكن قطار الزمن قد فاتني بعد أن بلغت الثامنة والسبعين من عمري، وبت أنتظر لحظة العبور إلى العالـم الآخر، حيث أرى مولاي علي.
دعني أهنئك على تفهّمك للحقيقة، التي لا حقيقة سواها، وأطلب منك أن تصلّي من أجلي".
وهناك أيضاً من هنّأ شربل بعيني على فهم الحقيقة، وعلى مدح الحق، مثل الشاعر اسحق العشّي، الذي نشر قصيدة في جريدة البيرق عام 1991، أختار منها:
فاهنأنْ يا شربل في مدح حقٍّ
فزت في دنياك في أحلى وسامِ
ودخلتَ البابَ من مدخل صدقٍ
مؤمناً في الحقّ.. في ذاك المقامِ
فتحيّاتي على شعرٍ رقيقٍ
يملأ الآفاقَ من وحي الكرامِ
كما أعادت مجلّة المناجاة ـ 1992 نشر العديد من الكلمات والقصائد التي نشرها أصحابها في الصحف والمجلاّت المهجريّة. ومن كلمة كان قد كتبها الشاعر أنطوان قزّي في جريدة التلغراف، أختار الآتي:
"مزامير شربل بعيني في مناجاته لعلي، أورقت في النفوس حضوراً شعرياً جديداً، وفضوليّة، وتطلّعاً نحو الوجه الآخر من عملة الشعر، وجه الشاعر أمام ذاته، قبل أن يكون أمام الآخرين".
وأختار، أيضاً، مقتطفات من كلمة كتبها الشاعر ألبير كرم في جريدة صوت المغترب:
"رائعة.. تؤكّد أن إبن مجدليّا في مناجاة عليّ شاعر ثوري محلّق. في مسيحيّته الخلاّقة انتفاضة على خرافة الإنعزاليّة المريضة، وفي إيمانه النبيل دعوة حقيقيّة إلى تسبيح اللـه، واتباع هدى الأنبياء والأولياء المجلّين".
ومن دراسة مطوّلة كان قد نشرها الأستاذ عصمت الأيّوبي في جريدة البيرق على حلقات، أختار ما يلي:
"إنّ مناجاة شربل بعيني يجب أن ينظر إليها في إطار مناجاة الدكتور البستاني، وفي إطار مناجاة الدكتور الصالح، وفي إطار مناجاة الدكتور جبر، وفي إطار القمم الروحيّة التي يعقدها رجال ديننا الأجلاّء في أستراليا، وأي مكان آخر، على أنها عمل بنّاء للمسيحيّة وللإسلام على حدّ سواء، ومجلبة لسعادة المسلمين والمسحيين دون تمييز".
ومن مقدّمة الأديب الأسترالي مايك هولينغورث لكتاب مناجاة علي، الطبعة الإنكليزيّة، أقتطف النهاية:
"شاعر ذو عمق بعيد ورؤيا، يقدّم لنا فلسفات شرقيّة ـ غربيّة، بصور صادقة، ومنهج مخلص. إن شربل قد تمثّل بمقولة محمّد (إن مداد العالـم لأقدس من دم الشهيد). إنه شاعر ستسمع أستراليا والعالـم المزيد منه وعنه".
ما رسائل الباكستانيين علي ومظفّر إلا دليل ساطع على صحّة ما جاء في كلام الأستاذ هولينغورث، من أن العالـم سيسمع بشربل بعيني.
**