التكريم التربويّ الأوّل

في الخامس والعشرين من شهر تمّوز 2001، استلم شربل بعيني رسالة رسميّة من رئيسة معهد سيّدة لبنان ـ هاريس بارك الأخت إيرين بو غصن، تعلمه فيها أنه سيكون موضع تكريم في الرابع عشر من شهر آب المقبل. وذلك لعطائه المتواصل، على مدى عشرين سنة ونيّف، في المعهد. وأعتقد أنه التكريم التربوي الأول الذي حصل عليه شربل، ولهذا قال، عندما سأله الأستاذ ألبير وهبة عن شعوره بالمناسبة، أن هذا التكريم سيكون الخطوة الأولى في مسيرة تكريم المعلّم. وإليكم ترجمة لبعض فقرات الرسالة:
"عزيزي شربل،
أغتنم هذه الفرصة لأخبرك أننا في عيد تأسيس جمعيّة راهبات العائلة المقدسة المارونيّات، سنعمل على تكريم الأساتذة والمعلمات الذين أمضوا مدّة طويلة في خدمة معهدنا، كما سنقدّم لهم الجوائز التقديرية التي تليق بخدماتهم.
ويسعدني أن أعلمك أنك ستكون أحد المكرمين في ذلك اليوم السعيد. على أمل أن يظهر هذا التكريم عطاءات ومهارات وتضحيات نخبة من معلمينا أمضوا في خدمة طلاّبنا مدة طويلة من الزمن، تتراوح بين 15 و26 سنة.
كما أتمنى أن يظهر لك هذا التكريم مدى الاحترام والتقدير اللذين تتمتّع بهما في معهدنا. وسيتم الاحتفال في كنيسة سيّدة لبنان، خلال قدّاس رسمي حافل في 14 آب 2001، بعده مباشرة، أنت مدعو لمشاركتي مع أخواتي الراهبات طعام الغداء في الدير".
ولكي نعرف ماذا حصل في ذلك اليوم السعيد، لـم أجد أفضل من مراجعة ما نشرته صحفنا المهجريّة عن التكريم، وبما أن الخبر الذي كتبه الأستاذ ألبير وهبة واحد في معظمها، انتقيت منها البيرق، العدد 1939، الصادر في 21 آب 2001، لتحليل الخبر:
"قدّاس الشكر والاحتفال والتكريم في معهد سيّدة لبنان محطّة روحيّة في حياة المعهد، الذي تسهر عليه وتديره راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات.
شكر للـه على نعمه الوفيرة، التي أغدقها على بناته الراهبات اللواتي نذرن أنفسهنّ لخدمة عباده، ونشر كلمته بين البشر، واحتفال بذكرى تأسيس جمعيّتهن المباركة، وتكريم لرسل الكلمة الذين مضى على خدمتهم في المعهد أكثر من خمسة عشر عاماً، وهم: سو مانداي 26 سنة، شربل بعيني 20 سنة، روز خوري 18 سنة، مارينا بابيك 16 سنة، وشاريل جورج 15 سنة".
إذن، فالمكرمون خمسة فقط. حلّ شربل الثاني في الأقدميّة، كونه أمضى عشرين سنة من عمره في أرجاء المعهد، وصاحبه في كافة مراحل تطوّره ونموّه وبنائه.
الحضور كان كثيفاً ومميّزاً، فبالإضافة إلى 1350 طالباً وطالبة، حضر المئات من أهالي الطلاّب، والعديد من المدعوّين الرسميين، وإليكم ما كتب ألبير:
"وبهذه المناسبة دعت رئيسة المعهد الأخت إيرين بو غصن، يوم الثلاثاء الماضي، إلى قداس احتفالي أقيم في كنيسة سيّدة لبنان، برعاية سيادة المطران يوسف حتّي، راعي أبرشيّة أستراليا ونيوزيلندة المارونيّة، حضره نائب منطقة باراماتا روس كاميرون، رئيس بلدية باراماتا ممثلاً بالسيّدة روبن ويلن، ورئيسة المركز التربوي الكاثوليكي الدكتورة آن بنيامين ممثلة بالسيّد غريغ نيزرلي، وعضو بلديّة باراماتا السيّد طوني عيسى، والأهالي والجسم التعليمي والطلاب.
في بداية الذبيحة الإلهيّة، التي احتفل بها الأب جيفري عبد اللـه المرشد الروحي للمعهد، وخدمتها جوقة المعهد، ألقت الأم الرئيسة كلمة ترحيب بالحاضرين، ونوّهت بالسبب الذي من أجله كان هذا القدّاس الإحتفالي".
كلمة الأم الرئيسة كانت رئيسة الكلام، رحّبت بها بجميع الحاضرين، وشكرت المطران يوسف حتّي وكافة المدعوين الرسميين والأهل والهيئة التعليميّة والطلاّب على مشاركتهم بالصلاة في هذه المناسبة السعيدة، إلى أن قالت:
"ونحن نحتفل اليوم بعيد تأسيس جمعيتنا، في الخامس عشر من شهر آب من كل عام، تجدّد كل راهبة منّا نذورها الربّانيّة. في مثل هذا اليوم نقول مجدّداً نعم للربّ، ونبدي استعدادنا لنكون خادمات متواضعات له، على مثال أمنا مريم العذراء. في مثل هذا اليوم منذ ما يزيد على المئة عام تأسست الجمعيّة في عيد انتقال العذراء إلى السماء.
ولاجتماعنا اليوم سبب آخر، ألا وهو تكريم خمسة من أفراد الهيئة التعليميّة الذين مضى على وجودهم معنا فترة من الزمن تتراوح ما بين 15 إلى 26 سنة. خلال هذه الفترة أبدوا التزاماً صادقاً بالمعهد، وروحاً مهنيّة عالية، واستعداداً دائماً للعطاء، ومشاركة يوميّة في حياة المعهد.
أتوجّه بالشكر إلى هذه المجموعة من المعلمين على جهودهم الحثيثة في حياة المعهد، ولنرفع الصلاة والشكر للرب الإله الذي به نلتزم قولاً وفعلاً".
في ختام القدّاس الإلهي وزّعت الجوائز التقديرية على المكرمين، بطريقة مبتكرة ورائدة، إذ اختارت الرئيسة لكل مكرّم شخصاً يتكلّم عنه، قبيل تسليمه الجائزة، ومن أفضل من الأستاذ طوني الشيخ للتكلّم عن صديقه شربل؟.. فجاءت كلمته مختصرة وشاملة في آن واحد، وقام بنشرها في مجلّة أميرة العدد 21، تشرين الأول 2001، وإليكم نصّها:
"عندما سألتني الأخت الرئيسة إيرين بو غصن أن أتكلّم، باختصار شديد، عن شربل بعيني، بمناسبة تكريمه بعيد تأسيس جمعيّة راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات، شعرت برهبة، وقررت أن أعتذر. فالمهمة ليست سهلة، إذ عليّ أن أتكلّم عن عشرين سنة من عطاءات شربل بعيني في معهد سيّدة لبنان ـ هاريس بارك.
عام 1980 دخل شربل المعهد بدوام متقطّع. ولكنه في عام 1981 دخله بدوام كامل ورسمي. أي أنه التحق بمهنة التعليـم بعد أن تخلّى عن تجارته، بغية مساعدة أطفال وطنه على تعلّم لغتهم الأم. فكتب لذلك العديد من الكتب، التي طبعت الحكومة الأسترالية معظمها، لتدرّس في معهدنا وفي كل مدارس الولاية. وأعتقد أن ما من مدرسة إبتدائيّة أو ثانويّة أدخلت اللغة العربيّة في منهاجها الدراسي، إلاّ وتدرس كتب شربل بعيني، أو تتخذّها كمراجع.
ولـم يكتفِ شربل بتعليـم اللغة عبر الكتب، بل التفت إلى المسرح، وكتب العديد من المسرحيّات الرائعة، فاعتُبر بحقّ أوّل من أسس مسرحاً للأطفال اللبنانيين في أستراليا.
في العامين 1997 و 1998، درس إبني سيمون اللغة العربيّة عند شربل، فسألته عن رأيه بالأستاذ بعيني، فأجابني: صدّقني يا أبي، إنّه أستاذ رائع وصاخب!
وكما يعرف الجميع، فشربل بعيني يعتبر واحداً من كبار شعرائنا المهجريين على امتداد خريطة الإنتشار اللبناني، لذلك كُرّم عدّة مرّات، ومنح جوائز أدبيّة كثيرة.
منذ عشر سنوات تعرّفت على شربل، أي منذ دخولي هذا المعهد، وبعد كل هذه السنوات، بإمكاني أن أفاخر وأقول: شربل بعيني هو صديقي.
أخيراً أحبّ أن أشكر الأخت إيرين على إتاحة الفرصة لي للتكلّم عن صديقي شربل، وأن أهنىء باقي المكرّمين".
وتأكيداً لما جاء في كلمة طوني الشيخ، أخبركم أن شربل لـم يطبع كتاباً مدرسياً واحداً قبل عرضه على أساتذة كبار كالمرحومين نعيم خوري وفؤاد نمّور، والأستاذ الجامعي عصمت الأيّوبي وغيرهم. ومن رسائل الإطراء التي استلمها حول كتبه المدرسيّة، اخترت رسالة لفقيد الكلمة المرحوم نعيم خوري، كان قد أرسلها لشربل في 24 آذار 1994:
"عزيزي شربل:
تحيّة أدبيّة..
أطّلعت فيما سبق على أحد كتبك المدرسيّة، وأبديت لك إعجابي في ذلك الوقت. واليوم، أتيحت لي الفرصة للإطلاع على كتابك الأخير دروب القراءة، فوجدت فيه قفزة نوعيّة موفّقة، وتطوّراً إيجابياً في التصميم تبويباً وأسلوباً ومادة، ومجهوداً علمياً اشتركت فيه الموسيقى اللفظيّة، ورهافة الحسّ، وشفافيّة العاطفة، لتسهم جميعها في إنعاش اللغة وجعلها أكثر دفئاً وتشويقاً للراغبين في استيعابها.
ورأيت أن هذا الإنتعاش يتمثّل الغزو العاطفي في شكل يحرّض على حبّ القراءة والإستزادة منها، على نمط يسهّل تدريجيّاً الرسوخ في القاعدة الصحيحة صوتاً وقراءة وكتابة.
ولا بدّ أيضاً من الإشارة إلى الأسلوب بالذوق الذي يستحدث طريقة (تلميع) الكلمات، لتدخل القلب والعقل والفكر دفعة واحدة، فتنمو اللهفة، ويزيد الإقبال على حب المعرفة.
فقرب الألفاظ من لغة التداول، وتطعيم بعض الجمل بالكلمات العاميّة السهلة على السمع والفهم والحفظ، قد أسبغا على الكتاب نكهة لذيذة تفتقر إليها الغالبيّة من الكتب المعدّة خصيصاً لتدريس اللغة العربيّة.
وبصورة إجماليّة أجد أن كتاب دروب القراءة على سلاسة لغته وبساطتها، غنيّ بتنوّع مفرداته وصوره والقواعد، متين السبك، أنيق الطباعة، سليم العافيّة، مشوّق وغزير المواد. لك تهنئتي وتمنيّاتي القلبية".
والآن، لنعد إلى تغطية ألبير الشيّقة للخبر، لنعرف منها ما حصل داخل جدران الدير المقدّس:
"وبعد التكريم، دعت الأخت الرئيسة الضيوف والمعلّمين المكرّمين إلى غداء تكريمي في دير الراهبات، قدّم المكرّمون خلاله هدايا تذكاريّة للراهبات، وشكروهن على هذه الإلتفاتة الكريمة، وقد تكلّم بالنيابة عنهم الآنسة روز خوري، فقالت:
بالنيابة عن زميلي شربل، وزميلاتي سو، مارينا، وشاريل، وبالأصالة عن نفسي، أتقدّم منكنّ، راهباتنا الفاضلات، بالشكر الجزيل على هذه الإلتفاتة المميزة، وأخص بالشكر رئيستنا الفاضلة على دعمها الدائـم لنا، ورعايتها المباركة لخطواتنا.
إننا نعتبر معهد سيّدة لبنان بيتنا الثاني، والطلاب والراهبات وأفراد الهيئة التعليميّة عائلتنا الكبيرة، وأنت يا أمنا الرئيسة الأم الروحيّة لهذه العائلة: عائلة معهد سيّدة لبنان".
وعندما سئل عن شعوره في هذه المناسبة أجاب شربل:
"لا نبي يكرّم في بلده.. عبارة طالما ردّدتها، وآمنت بها. ولكنني الآن، أجد لزاماً عليّ أن اعترف أن راهبات العائلة المقدّسة المارونيات في معهد سيّدة لبنان ـ هاريس بارك، قد شذذن عن هذا الكلام، وقرّرن، في عيد تأسيس جمعيتهن، تكريم معلماتهن ومعلميهن، خصوصاً أولئك الذين انضمّوا إلى عائلة معهدهنّ منذ 15 سنة وأكثر.
هذا التكريم الذي نلته مع زميلاتي الأربع: سو وروز ومارينا وشاريل، سيكون الخطوة الأولى في مسيرة تكريم المعلم.
عشرون سنة مرّت من عمري، لـم أشعر بها، فلقد كانت سعادتي بتعليم الصغار تطغى على كل شيء.
أهنّىء زميلاتي بالتكريم، وأشكر رئيستنا الأخت إيرين بو غصن على التفاتتها الرائعة الفريدة، وهي سيّدة المواقف المضيئة. كما أشكر باقي الراهبات اللواتي يوفّرن لنا جوّاً مريحاً من العمل، وخاصّة الأخت كونستانس باشا، لأنها كانت السبب في انضمامي إلى عائلة المعهد التربويّة منذ عام 1980".
في الختام، وجّه المربّي ألبير وهبة هذه الكلمات الشعريّة الجميلة إلى المكرمين:
"يا رسل الكلمة، التي روت أجيال المعهد على مرّ السنين، اليوم في تكريمكم تنتعش الكلمة، وعبركم يتعزّى المعلّم لأنه يشعر أن هناك من يقدّر عظيم عطائه".
لقد قدّرت الأخت إيرين بو غصن عظيم عطاء شربل، وشكرته مرّات ومرّات، ومن كلمتها التي افتتحت بها مسرحيّة (طلّوا المغتربين) التي عرضت في آب 2000، أختار الآتي:
"شكري الأكبر لمن كان وراء هذه المسرحيّة، وكل مسرحيّة عرضت من قبل، هذا الذي عرف كيف يستغلّ مواهب أطفالنا ويفجّرها على المسرح. هذا الذي أدرك أن العلم لا يكون عن طريق الكتاب فحسب، بل بالدخول إلى الحياة بواقعها اليومي، عنيت به الشاعر والمربّي والأديب الأستاذ شربل بعيني".
ألا تقولون قولي إن شكر الأخت الرئيسة إيرين بو غصن الأكبر لشربل بعيني، عام 2000، يوازي تكريمها له عام 2001، بلى واللـه.
وكما ذكرت سابقاً، فلقد نشر الأستاذ طوني الشيخ كلمته في مجلّة أميرة، ضمن تغطية شاملة للخبر، ضمّنها اعتقادات كثيرة صائبة، منها:
"أعتقد أنه التكريم التربوي الأول الذي حصل في إرساليّة تربويّة عربيّة مهاجرة".
كما أنه اعتقد أن مستوى التكريم كان عالياً جداً:
"التكريم كان رائعاً ومخطّطاً له بدقّة، وأعتقد أنه جاء بمستوى تكريم الدول لأبنائها، فلقد حضره أكثر من ألفي نسمة".
وفي ختام تغطيته الإعلاميّة، أعطانا رأيه في أهميّة تكريم المعلّم:
"تكريم المعلّم في معهد سيّدة لبنان، أعاد إلى ذهني ذلك البيت من الشعر:
قـم للمعلّم وفّه التبجيلا
كاد المعلّم أن يكون رسولا
ثلاثة أعياد في عيد واحد، هكذا شعر كل من حضر الإحتفال: عيد سيّدة لبنان، وعيد تأسيس جمعيّة راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات، وعيد المعلّم في الغربة. فألف مبروك للمكرّمين، خاصّة لصديقي شربل، وألف شكر للراهبات، لأنهن عرفن كيف ومتى يضئن مصابيحهنّ، وإلى اللقاء في احتفال مشعّ آخر".
أجل، إنه احتفال مشعّ، ستفرح به، وستردّد أصداءه زوايا غربتنا المظلمة النتنة، وصدق شاعرنا المكرّم حين قال: لا نبيّ يكرّم في بلده، ولكن الراهبات في معهد سيّدة لبنان ـ هاريس بارك، قد شذذن عن هذا الكلام. وما أروعه من شذوذ هادف، مثـمر، مفرح، ومبارك.
**