روبير خوري وصوت الشاعر

الشاعر اللبناني المعروف روبير خوري هو صاحب مجلة صوت الشاعر، التي تعنى بالأدب الشعبي اللبناني، وأعتقد، وإن كنت غير متأكّد، أنها آخر مجلة تصدر في هذا المضمار، بعد أن توقّف معظمها عن الصدور، وحرم أدبنا الشعبي من وسائل إعلاميّة تنشره وتدعو إليه.
من رسائل روبير أختار رسالة حسبتها، بادىء ذي بدء، قصيدة، نظراً لأسلوبها الشاعري المميّز، كان قد أرسلها لشربل في 12 حزيران 1992:
"الصدفه اللي أوقات بتغيّر كتير من مجاري الأمور.
.. صوت الشاعر اللي قرّبت المسافات البعيدة.
.. كلمتنا اللي كانت الحافز المباشر لهالتلاقي الفكري بيننا.
هالتلات عوامل بتأمّل تزيدنا تعارف بطريق المستقبل.
استلمت هديتك اللي هيّي أهم شي بنظري ممكن يهديه إنسان لإنسان. هديتك اللي بعتبرها دَين وما بقدر ردّو. لأنّو شربل بعيني الشاعر والأديب اللي هداني عصارة فكرو الشعري والأدبي بدون معرفة سابقة، لا بد إنّو يكون إنسان محبّ وصادق.
يا عزيزي بكل تواضع بهديك أعداد مجلّة صوت الشاعر، هالمجلّة اللي بتأمّل تتصفّحا وتنال اهتمامك.
بيسرّني، وبيسرّنا بصوت الشاعر إنّو نكسب محبّة صديق، وإنّو يصير في بيننا تواصل، وتبادل شعري، ومنتأمّل يكون لصوت الشاعر محطّة ترتاح فيا بأستراليا عند شاعر كبير بيقدّر قيمة الشعر.
صفحات صوت الشاعر مفتوحة لشعرك وأخبارك، وقلوبنا مفتوحة لمحبتك.
بكرّر شكري لمبادرتك بالإتصال بصوت الشاعر، وبشخصي، وبتمنى نلتقيك بالوقت القريب بلبنان".
أمّا الرسالة الثانية، فقد افتتحها روبير بردّة زجلية حلوة، وكأنه يريد أن يخبرنا أن لا شيء يتقدّم الشعر، حتّى في الرسائل، والرسالة، للتوثيق فقط، بدون تاريخ:
"صديقي الشاعر شربل بعيني المحترم
يا رفيق الكلمه الحدّه
الرافقت الكل بشوطك
اشتقنا عليك، ومن مدّه
ما عدنا سمعنا صوتك
اغتنمت فرصة سفر السيّدة دورس دوماني عا أستراليا، تا إبعتلك هالرساله المتواضعه، اللي بتحمل إلك شوقي ودعائي باستمرار نجاحك الأدبي والشعري.
صديقي: بسألك عن أشغالك وأحوالك، وبتمنالك كل خير. زوّدنا بأخبارك الشعريّة، إذا بيهمّك، ونحنا حاضرين لنشرها عا صفحات صوت الشاعر.
إذا بتريد أي خدمة من لبنان، نحنا حاضرين، ومنتمنى استمرار التواصل الفكري والشعري بيننا".
وعندما كرّمت الجمعيّة الإسلامية العلويّة في سيدني شربل بعيني على ديوانه مناجاة علي، كانت مجلّة صوت الشاعر السبّاقة الى نشر الخبر في الوطن الأم لبنان، فكتبت في عددها 31 الصادر في شهر كانون الأول 1992، ما يلي:
"بدعوة من الجمعيّة الخيرية الإسلامية العلوية، وفعاليات الجالية اللبنانية والإعلاميّة في مدينة (بانشبول) بأستراليا. أقيم حفل تكريمي للشاعر المهجري شربل بعيني، بمناسبة صدور ديوانه مناجاة علي. كان ذلك مساء السبت 7 تشرين الثاني 1992، في قاعة غرانفل ـ تاون هول.
حضر الإحتفال جمهور كبير من خيرة وجوه الجالية اللبنانيّة، بالإضافة إلى مجموعة من رجال فكر وإعلام أستراليين، وقد رعى الإحتفال سعادة السفير اللبناني الأستاذ لطيف أبو الحسن، كما شارك فيه الأديب اللبناني جورج جرداق.
وقد تكلّم في هذا المهرجان فضيلة الشيخ كامل وهبه، والشاعرة الأستراليّة آن فيربرن، الآنسة ليلى الأيوبي، الآنسة نجوى عاصي، الأستاذ مايكل هولنغورث، الأستاذ رفيق حمّودة، والأستاذ كامل المر.
ومما جاء في الدعوة: تكريم شربل بعيني هو تكريم لكل أديب مهجري، ولكل مغترب رمت به رياح الظلم على شطوط الغربة، ولكلّ من آمن بالإنسانيّة الشاملة.
صوت الشاعر بدورها تهنّىء الشاعر شربل بعيني على هذا التكريم، الذي سرّنا أن يكون لشاعر زجلي من بلادنا، تتمنى له دوام النجاح في عالـم الكلمة".
يتضح لنا من صياغة الخبر أنه نقل إلى المجلّة شفهياً عن طريق الهاتف، أو عن طريق إنسان ما، سافر إلى لبنان بعد أن حضر المهرجان، لهذا دخلت (بانشبول) كمدينة، وليس كمنطقة من مدينة سيدني، وسقط إسم البروفسور نديم نعيمة من بين الأسماء المشاركة، وهذا ما يدل على أن الشاعر خوري يتتبّع أخبار الشعراء المهجريين وينشرها، كما تصله، المهم أن يكون السبّاق الى تشجيعهم، وتسليط الضوء على نشاطاتهم في ظروف صعبة للغاية كان يمرّ بها لبنان، أقلّها اقتتال بنيه، وانهيار عملته، وترحيل ما تبقّى من طاقاته الفكريّة والإبداعيّة.
وزيادة في تكريم شعراء الإغتراب، اختار روبير ديوان رباعيّات لشربل بعيني (كتاب الشهر)، وخصّه بدراسة رائعة، وبالتفاتة مميّزة على غلاف مجلته صوت الشاعر. وترحيباً منها بالخبر، نشرت البيرق في عددها 593، الصادر في 29 كانون الأول 1992، ما يلي:
"مرّة جديدة يؤكّد الشعر الإغترابي أو المهجري حضوره على الساحة الأدبيّة، ليس فقط في بلاد الإغتراب، بل أيضاً في الوطن الأم، ويظهر للملأ انبعاث نهضة أدبيّة تستحقّ الإلتفات والإهتمام.
ومن هؤلاء الشعراء الذين تخطّى نتاجهم هذا المغترب، ليصل إلى الوطن الأم، الشاعر شربل بعيني الذي أفردت له مجلّة صوت الشاعر الصادرة في لبنان صفحة حول ديوان رباعيّات الذي مضى على إصداره أكثر من عشر سنوات.
وصوت الشاعر الشهرية الإصدار، هي مجلّة تهتم بالشعر الشعبي اللبناني، الذي هو خلاصة حضارة لبنانيّة، وقد حمل غلاف عددها الأخير العناوين التالية: جوقة القلعة في نهر الكلب. حنينة ضاهر تكتب عودة إلى الجذور. وكتاب الشهر، رباعيات الشاعر شربل بعيني.
ومن منطلق اهتمامنا بالأدب المهجري وأدبائه وشعرائه، لأن في ذلك إعلاء لشأننا، نورد ما جاء في هذه المجلّة، شاكرين أصحابها والقيّمين عليها على لفتتهم الكريمة هذه".
وقبل أن أبدأ بنشر دراسة الخوري، أحبّ أن أطلعكم على مقتطفات من مقدّمة الطبعة الأولى لـ رباعيّات، التي كتبها الأستاذ ألبير زعيتر عام 1983:
"رباعيّات.. شعر حلوٌ لشاعر عتيق أعطى الشعر الإغترابي اللبناني لمسات أدبيّة مميّزة، وأغنى المكتبة الشعريّة الإغترابيّة من نفحات قلبه.
سبح في بحور العشق والحبّ، فصوّر الأحاسيس الإنسانيّة من خلال معاناته الشخصيّة.
أعطى إحساساته بعداً ربّانيّاً، وأشرك البعيد الآتي من السماء في تصوّراته الشعريّة، وكأني به يريد من شعره أن يكون صلاة في معبد يتلوها كلّما تاق إلى مناجاة حبيبته.
ولكن مع وجدانياته وحلاوتها الشعرية، نرى له جولات وصولات في الوطنيّة، فينتفض للوطن الجريح، وطن الإنسان والشهادة. ويعطي من قلبه ووجدانه عنفوانَ مجد، وصرخاتِ بطولة، وتحدياً للغاصبين.
هذه الصرخات الوطنيّة ليست بغريبة على شربل بعيني، فالوطنيّة والوجدانية والإنسانيّة هي من خصائص الإبداع الذي يتحلّى به. فلا عجب إن رأينا رباعيات تثور على الثورة، وتصنع من الحب محبّة، ومن الرفض والعنفوان سياجاً للوطنيّة.. وجميعها تصب في خانة شاعر إنسان، جعل من الشعر صلاة حبّ ووطنيّة، ومنبراً لأحاسيس البشريّة. ذلك هو شربل بعيني".
كما أحب أن أطلعكم على بعض ما كتبه الأستاذ ميشال حديّد في جريدة صدى لبنان، العدد 521، الصادر في 11/11/1986:
"صدر حديثاً عن مطابع دار الثقافة كتاب شعري باللغة اللبنانيّة ـ طبعة ثانية ـ بعنوان رباعيّات للشاعر شربل بعيني.
تتميّز القصائد في هذا الكتاب بقصر قاماتها، هذا إذا كان الشعر يقاس بالأشبار والأمتار، كما يقيس البعض إنسان اليوم.
شربل بعيني المعروف بطول نفسه الشعري، يبدو في رباعيّاته قصير النفس. يأتي كالومض، ويمضي كالبرق، كأنه يطارد أحواله وشتاته وتمزقاته. الوقت هو المساحة الشعرية. والوقت هنا يسابق بعضه بعضاً، ويتكثّف طبقات من أوتار وأعصاب مشدودة إلى الآخر".
إلى أن يقول في نهاية المقال:
"رباعيات ـ طبعة ثانية ـ كتاب أنيق وجميل من حيث الشكل وطريقة توزيع القصائد، وتجربة شعريّة غنيّة من حيث التجديد الشعري معنى ومبنى وصورة وكلمة.
والطبعة الثانية حملت إلينا إضافات شعريّة جديدة، وغيّبت بعض القديم. لقد أصبحنا نحب شربل بعيني ككل، لا كأجزاء ومحطّات، فقديم شعره عتبة لجديد شعره، كما جدّد شعره اختمار قديمه".
وتحت عنوان: (كتاب رباعيات للشاعر شربل، على أوراقه وجع الغربة وفرح الحبّ)، كتب الشاعر روبير خوري في صوت الشاعر هذه الدراسة القيّمة:
"مثله مثل الكثيرين الذين غادروا لبنان إلى بلاد الإغتراب سعياً وراء لقمة العيش، حاملين معهم آمال محطّمة ووجع الغربة، ولكن..
هكذا الشاعر شربل بعيني غادر بلاده إلى أستراليا، وحلّ هناك ضمن الجالية اللبنانية العريقة، التي حملت معها من لبنان، كل لبنان، التقاليد، العادات، الأعياد، حتى أسماء الشوارع والقرى.
والشاعر شربل بعيني اغترب وحمل معه، إضافة إلى ما ذكرت، الشعر الشعبي اللبناني، وهو الذي له في هذا الميدان الشعري الباع الطويل، والذي ساهم بقوة في تحريك عجلة الشعر الشعبي في أستراليا، ربما أكثر من غيره، فهو الشاعر الذي له أكثر من عشرة دواوين بالشعر الشعبي اللبناني.
ومن بين كتبه العشرة، اخترنا اليوم كتاب رباعيات، 126 صفحة، حجم عادي، مزدان برسوم للفنّان المهجري ميشال رزق.
يقول الأستاذ موريس عبيد في تقديم رباعيات: "فشربل بعيني هذا الشاعر الإنسان، الغزير العطاء، المرهف الحسّ، شاءه اللـه أن يكون المترجم الأدبي، والناقل الصادق، روعة كونه الصغير إلى المجتمع الذي ترعرع وعاش في صميمه". خاتماً بقوله: "رباعيّاته تمتاز بالجرأة، وتتناول جوانب الحياة بعنفوان وكبر".
كِرْمال عَيْنِك بَسّ يا بْلادي
زْرَعت بِالغُربِه شِعْر وِزْهورْ
وْضِلَّيت طول الوَقْت عَمْ نادي:
يْدُوم عِزِّكْ.. وِالقَلْب مَقْهورْ
بهذا المقطع يبدأ شربل بعيني رباعيّاته، التي كتبها وهو بعيد عن وطنه لبنان، والتي تبيّن لنا التصاقه بوطنه، وتعلّقه بأرضه الطيّبة، حيث تقرأ له في مكان آخر:
عْلَوَّاهْ لَوْ فِيِّي يَا ضَيْعِتْنَا
رَكِّبْ جْنَاحْ.. وْطِيرْ بِالْعَالِي
تَا غِطّ غَطَّه عَ سْطَيْحِتْنَا
وْزُورْ كَرْمِي الْـ زَارْعُو دْوَالِي
وبلحظة من لحظات الرجوع إلى الذات، يتذكّر الشاعر شربل بعيني يوم انسلخ عن أرضه الطيّبة مختاراً الغربة ليقول وهو يسمع، ويعاني مما وصل إليه الشعب اللبناني متسائلاً:
لَيْش صِرْنا بْهَالدِّنِي مْسَبِّه
وِتْشَرْشَحِتْ بِالْكَوْن قِيمِتْنَا؟
وْلَيْش انْسَلَخْنَا عَنْ أَرْض خِصْبِه
وْجِينَا انْزَرَعْنَا بْأَرْض غُرْبِتنا؟
رباعيات شربل بعيني غنيّة بالصور الشعريّة، فهذا الشاعر تدرّج برباعيّاته من الوطنيّات، إلى الوجدانيّات، إلى الحب، الذي أعطاه القسم الوافر من رباعياته، فبعد أن نراه شاعراً متمرّداً بـ:
تَا نْكُونْ أَقْوَى مْنِ الرِّيَاح الْعَاتْيِه
الْـ حَصْدِتْ سَنَابِلْنَا اللِّي بَعْدَا خُضْرْ
لازِمْ نْقَاوِم هَـ العادات الْبَالْيِه
وْعَ كِلّ مَفْرَق دَرْبْ نِزْرَعْ شِعْرْ
نعود ونراه مستعطفاً حبيبته عدم الرحيل، وهو الشاعر الأعزب الباقي إلى الآن:
إنتي الطُّهْر إِنْتي.. يَا شَمْعَه بْدَيْرْ
يَا زَنْبَقَه الْـ غَار الزَّهر مِنِّكْ
طَلّتِكْ كَانِت سَعادِه وْخَيْرْ
لا تِرْحَلِي.. مَا لِي غِنَى عَنِّكْ
وبعد.. شربل بعيني، الشاعر المغترب، صاحب العشرة دواوين شعر، جال بكتابه رباعيّات على مجموعة مواضيع متعدّدة، سكبها بقالب شعري مميّز، وكأنّي بهذا الشاعر الملهم، أراد برباعياته أن يفرغ ما في جعبته من مواضيع في كتاب واحد، باحثاً بالإنسان، الأرض، الطبيعة، الإغتراب، الحب.
ونقلب الصفحة الأخيرة من كتاب رباعيّات، فنقرأ للأديب جوزيف بو ملحم، يختم هذه الرباعيّات، ويقول معرفاً عن الشاعر: (عندما يقال شربل بعيني في أستراليا، يعرف الجميع أن الشعر هو بيت القصيد. فشربل والشعر توأمان في هذه البلاد، حتى أصبح تجنيّاً ذكر أحدهما دون الآخر.
خسة عشر عاماً في المهجر، وعشرة دواوين شعر، وكتابان مدرسيّان، وسيرة حياة. هذا هو شربل بعيني، وكفى).
ولكنّ شربل لـم يكتفِ بعشرة دواوين شعرية، ولا بكتابين مدرسيين، بل أضاف إليها، في السنوات التي تلت، عشرات الكتب التي ذكرتها، سابقاً، عندما تكلّمت عن مؤلّفاته الأدبيّة والمدرسيّة.
ولو لـم يعجب شاعر كبير كروبير خوري بشعر شربل بعيني، لما خصّه بالإهتمام، وهو من هو في عالـم الشعر والنشر والصحافة، ويكفي أن تصله كل شهر مئات القصائد التي يختار منها الأجمل لأعداد مجلته صوت الشاعر، لندرك مدى نضوج رؤيته الشعريّة، ومدى عمق تذوّقه الأدبي.
**