مدرسة جديدة في الأدب المهجري

الدكتور جورج مارون، كاتب لبناني معروف، مؤلّفاته تشهد له، فكأنه ما كتبها إلاّ ليدعّم أسس إنسانيّة الإنسان في وطنه، وكأنها قناديل فكر اقتُطفت من شجرة المحبّة، وخير دليل على ذلك اهتمامه بأدب شاعر مهجري لـم يلتقه أبداً، حتى ولـم يسمع صوته. جلّ ما في الأمر أنه تعرّف عليه من خلال كتب أهداها إليه صديق مشترك اسمه الدكتور عصام حدّاد.
هو إبن بلدة بقرقاشا الشماليّة الشامخة في جبل لبنان. تقدر منها أن تلتقط ما تشاء من نجيمات السماء، فالغيوم، دائماً وأبداً، تتكوّن في وادي قاديشا المقدّس، وترتفع صوب منازلها الهانئة لتحوك لرقبتها شالاً، ولا أجمل، من الضباب. ويكفي أن تكون هذه البلدة الصغيرة جارة قرية بقاعكفرا التي أعطت العالـم قديس لبنان شربل مخلوف، لنكتشف سرّ تلك الطوباويّة التي تكتنف كل كلمة كتبها جورج في دراسته (شربل بعيني وألوان الغربة: مدرسة جديدة في الأدب المهجري(، التي نشرها في الأنوار اللبنانيّة، الصادرة في 16 أيلول 1994 . وقد يتعجّب البعض من وصفي الدقيق لتلك المنطقة، ولكنهم لو علموا أنني أمضيت أجمل سني شبابي في لبنان، وخاصّة في الشمال، لأدركوا مدى تعلّقي وافتتاني بالقطعة السماويّة، التي اسمها لبنان.
يبدأ الدكتور مارون دراسته بتحليل نفسي للغربة، وكأنّه عاناها كما عانيناها نحن، فيقول:
"ما أقسى الغربة، وما أضنى قرار السّفر. حشرجات يغصّ بها حلق المسافر. دمعات كاوية عالقة في المآقي، تعبّر عن أنين الجسد ووجع القلب قبيل الفراق، تراقب شعاعات الشّمس الفاترة عند الغروب، كأنّها تودّع الأرض الدافئة في آخر نظرة أو لقاء، وتغيب الوجوه عن الشاطىء المنبسط خلف البحار في بلاد أسيرة تتكىء على صدر جزر من الإنكفاء والعزلة، غزتها أرجل عربات الحضارة، وجحافل من دخان المصانع وهدير الآلات تحوّل الأرض إلى بركان مشتعل، لا تخمد ناره، ولا ينطفىء أواره، يطوي الحياة في عروق الثواني وأحداق اللحظات، إنها الغربة، ما أتعسها تنساب على صدرها جداول النجوى والحنين، تحمل الرسائل والآهات إلى الوطن، تتذكّر حكاية الماضي والطفولة الغابرة، تشتاق إلى صفاء الحياة وسكينة الطبيعة في جبال لبنان، إلى خرير المياه جاريات في السفوح والبطاح، تنشد أغاني الوجود بأرقّ الأنغام وأعذب الألحان، تهفو إلى عبق الأزهار والثـمار، يتضوّع من شرايين الأودية المقدّسة، وظلال أفياء غابات الأرز الشاهقة".
كلمات جورج عن الغربة ذكّرتني بأغنية لسيّد الأغنية العربيّة الدكتور وديع الصافي، يقول مطلعها:
مُرَّه يا ليالي الهجر مُرَّه
أكتَرْ من العلقَم ألف مرَّه
كما ذكرتني بصرختين موجعتين لشربل، الأولى في قصيدته (وريقات من دفتر الغربة):
غربتي صارت كطعم الموت صعبه..
والثانية في ديوانه الغربة الطويلة:
يا غربة الأيّام الطويلِه
يا غربة الشّقا والضّنا
قبل ما تِحْكيلُن.. حْكِيلِي:
شُو اللِّي مِتْخَبَّالي أنا؟!
وأعتقد أن جورج لـم يلجأ إلى تخويف القارىء من الغربة، إلاّ ليضعه، بطريقته الأدبيّة الساحرة، في الجو الذي كتب به شربل قصائده المهجريّة، وإليكم ما كتب:
"بين أنفاس هذه الغربة يغنّي شاعر لبناني أناشيد الحب والجوى، يعزف ألحان السفر وترانيم الجداول، يعتصر قلبه أسى، يكتوي بنار الصبابة، يكابد اللوعة والبعد عن الأهل والوطن. إنه الشاعر شربل بعيني، حامل قيثارة الحبّ المتجدّد وراء البحار، يبثّها شوقه اللاهب، وحنينه المشتعل إلى مراتع الطفولة، وملاعب الصبا، إلى الأرض التي حبا عليها فتنشّق نسيمات الحريّة مع هوائها، وتلقّى المبادىء والفضائل القويمة، فتربّى على السماحة والمثل، وازداد تشبّثاً بأرض الوطن، يرفض التخلّي عنها، ولكنّ التجارب المرّة، وسنين المحنة العجاف، وما خلّفته من واقع مشؤوم مشوب بالقلق والحذر والضياع، دفعت بشاعرنا إلى مغادرة قريته مجدليا الهادئة الساكنة في جبين الساحل المشرق شمالي لبنان. تلك القرية التي أنس إلى موسيقى أوراق أشجارها الوارفة، فكتب تحت ظلالها أولى قصائده، معبّراً فيها عن باكورة التجارب في حياته، لكنّه تركها مرغماً فغدا كطائرٍ يجوب الآفاق بحثاً عن الصفاء والسكينة، فكانت أستراليا محطّته البارزة، وفي تلك الأصقاع استقرّ شاعرنا، ولكنّ باله لـم يهدأ، فظلّ الحنين يشدّه إلى الأهل والوطن، فتتجدّد الذكريات، وتتفجّر ألماً، ويدوب قلب شربل على الشاطىء، وهو ينتظر سفينة العودة لتنقله إلى لبنان، ويسيل قلبه شعراً متدفّقاً يتلظّى بنار الحبّ، يترك صداه في قلب الشاعر من خلال مجموعة من الدواوين الشعريّة نظمها في بلاد الإغتراب، شعبيّة الطابع، واقعيّة الإتجاه بموضوعاتها اليوميّة، وهي تعتبر بحقّ نواة الشعر العامي لما فيها من خروج على قيود الشعر العاديّة، وقد نوّه بها الدكتور عصام حدّاد، صاحب ومؤسس معهد الأبجديّة في جبيل، في أكثر لقاءاته الشعريّة والأدبيّة، فاعتبرها محاولة جديدة في عالـم الشعر، قام بها الشاعر بعيني بهدف إرساء قواعد الأدب المهجري في أستراليا، بلغة عاميّة سهلة، لبنانيّة الأصل، تحمل كل معاني النغم والرقّة واللطافة التي تشيع في النفس موسيقة صاخبة".
نقدر أن نفهم من هذا الكلام أن الدكتورين مارون وحدّاد قد اعتبرا، وبعد دراسات مطوّلة، أن شربل بعيني قام بمحاولة جديدة في عالـم الشعر، تعتبر بحقّ نواة الشعر العامي، لما فيها من خروج على قيود الشعر العاديّة، بغية إرساء قواعد الأدب المهجري في أستراليا. وكأنهما يلتقيان مع ما كتبه الأستاذ كامل المر عام 1988، في كتابه مشوار مع شربل بعيني، صفحة 68:
"أمّا في الشعر العامي، فللشاعر مدرسة خاصّة به، تمرّدت تمرّداً مستساغاً مستحبّاً على ما هو معروف من أوزان هذا الشعر، وسيكون لها، ولا شك، أثرها في تطوير هذا الفنّ الشعري، الذي لا يقلّ أهميّة عن الشعر الفصيح والمواضيع الأدبيّة الأخرى".
كما يلتقيان، أيضاً، مع ما كتبه الشاعر فؤاد نعمان الخوري في جريدة صوت المغترب، العدد 1020، الصادر في 9 آذار 1989:
"ولعلّ الشاعر شربل بعيني أول من عرف، بحسّه الشعري، كيف يلتقط إشارات التجديد الطالعة من بيروت، فجدّد وطوّر و(خربط) الأوزان".
وفي المصبّ ذاته، تصبّ هذه الشهادة التي نشرها الصحفي زاهي الزيبق في عدد التلغراف 1911، الصادر في 8 أيار 1989:
"الشاعر شربل بعيني، منذ نعومة أظافره، يعشق الفنّ والشعر والأدب، ويخوض في ميادينه ومنابره، بقريحة نادرة، وموهبة فائقة، فلا غرابة إذاً أن يستحوذ على اهتمام النقّاد والأدباء والشعراء والصحافة ورجال الفكر، ولا غرابة أن نراه من أوائل المدعوّين إلى أشهر المنابر الشعريّة والأدبيّة، سواء في أستراليا أو في الخارج، لأنه استطاع، وبمجهود شخصي، أن يرفع من مستوى الأدب المهجري، ويسجّل لأستراليا طول الباع في هذا المجال".
كلام كهذا، يثبت أن عطاء شربل بعيني الأدبي في المهجر، على مدى ثلاثين سنة، لـم يذهب سدى، بل أسس (مدرسة جديدة في الأدب المهجري)، على حدّ تعبير الدكتور جورج مارون. ولنتابع القراءة:
"وأهم هذه الدواوين: مراهقة، الغربة الطويلة، رباعيّات، كيف أينعت السنابل، أللـه ونقطة زيت.. وحين نقرأها نسافر مع الكلمات المنسابة عبر أقنية الشعر إلى عالـم مفعم بالأمن والصفاء، تسوده المحبّة والعدالة والحريّة والإخاء، وهو العالـم الذي تتوق إليه ذات الشاعر، وتصبو في جدليّة تصاعديّة، لتبلغ عالـم الروح، بعيداً عن المادة القاتلة، والحقد المشوّه في مجتمع متداعي الأساس، مقوّض البناء".
عندما كنت أنشر قصائد شربل في جريدتي صوت المغترب، كنت أتلقى عشرات الرسائل والمكالمات الهاتفيّة التي تشيد بها، وتوصف شاعرها "بالشاعر الصادق"، الذي يفتّش عن عالـم تسوده المحبّة والعدالة والحريّة والإخاء، تماماً كما قال دكتورنا البقرقاشي. وما نفع الكلمة إذا لـم تنطلق بنا، أو بالأحرى تحملنا إلى هذا العالـم المثالي؟.
ومن رسالة وصلتني من القارىء توفيق جابر، ونشرتها صوت المغترب في عددها 864، الصادر في 19 كانون الأول 1985، أختار هذه الفقرة:
"شربل بعيني، شاعر صادق مع نفسه ومع الآخرين، ولو منحنا اللـه نعمة الشاعرية لكنّا كتبنا كلاماً كهذا، يعبّر عن رأي الأغلبيّة الساحقة من المقيمين والمغتربين".
كما أختار هذه الفقرة، من رسالة وصلتني من القارئة أنطوانيت تصّور، ونشرتها صوت المغترب في عددها 874، الصادر في 27 شباط 1986:
"شربل بعيني كان في (آخرتها شو؟) شاعراً ثائراً بكل ما في الكلمة من معنى، وأعتقد أنه بشعره العامي لا يقل، بمستواه، عن باقي القصائد التي نشرها بالفصحى".
ومن رسالة أخرى لتوفيق جابر، نشرتها صوت المغترب في عددها 892، الصادر في 10 تموز 1986، أختار الآتي:
"قالت مجلّة النهار العربي والدولي أن الصدق القوي يهدر في أشعار شربل بعيني. وأنا أقول بدوري: لولا هذا الصدق، لما توصّل إلى امتلاك قلوب العديد من أبناء الجالية، لدرجة أصبح معها: ضمير الشعب".
وعن معاناة شربل بالغربة، يقول الدكتور مارون في دراسته الرائعة:
"ومعاناة الغربة لـم تغب عن قلب الشاعر، بل خضّبت ذاته بألوانها، وجعلته طائراً يغرّد في حديقة الوجود، يبحث بين ظلال الغربة عن حبّ ضائع وسلام مفقود، فلا يرى إلاّ الأشباح المخيفة تنشب أظافرها الحادة، تنعي رحيل الإنسان، تبشّر باليباس والفناء، فتنداح الصور السوداء، فلا يرى إلاّ الأوديّة وقد ملئت بالجثث المتناثرة، وبقايا اللحود المظلمة، وتتحوّل الرحلة إلى قلق ويأس، ولكن ذلك لا يلبث أن يغيب، فتتجدّد الرؤيا الصافية لتبدّد الغيوم الداكنة، وإذا برؤيا الشاعر المنبثقة من الذات الصامتة، الذات المتجسّدة حباً وحنيناً ذائباً، تتوق إلى الذات الكليّة لتنصهر بها، وتتحد معها في عناق طويل في مسيرة الخلق والإبداع.
والمجتمع لـم يكن بعيداً عن إحساس الشاعر وقلقه، وقد ساده الجهل والطمع والجشع، وغدا فيه الإنسان سلعة تباع في الأسواق.. يغرق في الطين المحمّى، ينتحب أمام توابيت الأحلام في جزر معزولة، تغطّي شطآنها الصدف والمحار.
في ارتداديّة هذا المجتمع يعلو نداء شربل بعيني، يحمل في كلماته نفحات تمرّد وثورة على الظلم الإجتماعي، وفقدان العدالة.. يجسّد النزعة الإنسانيّة الشاملة والحبّ المطلق، والبعد عن العصبيّة البغيضة والطائفيّة الممقوتة.. يبحث عن الحقيقة الكامنة في جوهر الوجود.. يفجّر غضبه على التجّار الفاسدين والمرابين، وكل من باع الإنسان والدين، ويدعو إلى إبعادهم من مجتمعنا، لأنهم سبب كل شرّ وفساد وانهيار".
ما أن انتهيت من قراءة هذه العبارات المذهّبة، حتى حملتني الذكرى إلى افتتاحيّات كنت أكتبها في صوت المغترب، أستشهد بها بأبيات من قصائد شربل بعيني، وأعتقد أنني كنت أوّل مَنْ أدخل أشعار شربل في افتتاحيّات صحفيّة. ومن تلك الإفتتاحيّات اخترت واحدة تتلاءم مع ما كتبه دكتورنا العزيز، كانت قد نشرتها صوت المغترب في عددها 866، الصادر في 31 كانون الأول 1985:
"احتفل العالـم بذكرى ميلاد السيّد المسيح، رسول المحبّة والإخاء والسلام. فأين نحن في هذا العصر من المحبّة والإخاء بين أبناء الأمة الواحدة، التي اختارها اللـه من بين الأمم جمعاء، وبعث إليها الأنبياء والمرسلين؟.
وأين نحن من السلام بين أبناء البلد الواحد، والحقد الطائفي البغيض يعمي الأبصار، ويحجّر القلوب؟..
نحن جميعاً مؤمنون باللـه، فمنّا من آمن بالإنجيل، ومنّا من آمن بالقرآن، تجمعنا مفاهيم المحبّة والتآخي والوئام. وهنا أتذكّر قول الشاعر المهجري شربل بعيني، مع اعتذارنا للتصرّف:
.. وكلّ ما طِلع عليّي الضوّ
رحْ إرفع راسي بالجوّ
وإسألكُنْ بِـ إِسم الدِّينْ
وْبالإنجيل وبالقرآن:
إذا كنتو زعلانين
تْراضوا.. وإذا متفّقين
حَرام تْسيبُوا الأوطانْ".
في هذا المقطع، يخاطب شربل السيّد المسيح والنبي محمد، ويدعوهما إلى الإتفاق والتراضي، رحمة بوطنه لبنان، وبما أن المآسي والحروب تحصد آمال وأحلام جميع الشعوب العربيّة، استبدلت اسم (لبنان) بكلمة (أوطان) في البيت الأخير، كي يشمل الإتفاق باقي أوطاننا العربيّة التعيسة.
في ختام دراسته، يعطينا الدكتور جورج مارون هذه الشهادة النضرة بأدب شربل بعيني:
"أخيراً يمكن القول أن شربل بعيني شاعر الحبّ المتجدّد، حبّ مخضّب بدموع التجربة، وألوان الغربة والمعاناة، استطاع أن يصفّي الذات ليصهرها بشموليّة الوجود. حمل في قلبه حبّ الوطن والإيمان بأرضه وشعبه، فهو إن أحبّ كان حبّه صادقاً مخلصاً، وإن غنّى الشعر نفحه في قيثارة عذبة، تنفث الكلمات الرشيقة والمعاني اللذيذة في أسلوب جديد يجعله في مصاف الشعراء الذين يحاولون إرساء قواعد مدرسة جديدة في صياغة الديباجة الفنيّة للشعر العربي في بلاد الإغتراب".
عندما كنت أكتب عن شربل بعيني، وأنشر قصائده باهتمام زائد، اتهمني البعض، وما أكثرهم في هذا الزمن الرديء، بالإنحياز الأعمى مع شربل، وكأني أرى الأشياء بعين واحدة، ولكنني، وبعد اطلاعي على آراء المئات من أصحاب الأقلام الشريفة الناصعة كثلج صنّين، وجدت أن ما كتبته لـم يكن سوى قطرة في بحر محبّة الآخرين لأدب شربل بعيني. وخير دليل على ذلك هذه الدراسة التي أهداها لأدبنا المهجري الدكتور جورج مارون.
**