ندوة إذاعة الإذاعة

الشاعر رفيق روحانا، من منّا لـم يسمع به أو بأبيه عملاق الزجل اللبناني أنيس روحانا، رحمه اللـه، وهما من أعطيا الشعر فرحه، توهجّه، وعظمته. حتّى قيل إن مجرّد ذكر إسم عائلة "روحانا" يفتح أمامك سجلاًّ ذهبيّاً من العطاءات الفكريّة والشعريّة والموسيقيّة.
لرفيق مؤلفات أدبيّة وشعريّة عديدة، كما أن له صولات وجولات في عالـم الأثير، وقد استضاف في برنامجه الإذاعي الأديبة إبريزا المعوشي والدكتور عصام حداد لمناقشة أدب شربل بعيني. وكنا قد نشرنا مقتطفات من التعليق الصحفي الذي كتبه مدير تحرير جريدة المستقبل الأستاذ أنطونيوس بو رزق حول تلك الندوة التي بثّتها إذاعة الإذاعة في لبنان.
إبريزا المعوشي، إسم أدبيّ لامع، مؤلفّاتها الأدبيّة عديدة. فازت بجائزة المرحوم كمال المر، وزارتنا في أستراليا عدّة مرّات للتوقيع على كتبها. وبما أننا تكلّمنا عن عصام سابقاً، سنبرز الآن ما قاله رفيق وإبريزا عن شربل بعيني.
الدكتور عصام حدّاد أعطى لمحة موجزة ومعبّرة عن حياة شربل ومؤلفّاته، وعندما قال إن شربل أصدر جريدة صوت الأرز فور وصوله إلى أستراليا، وكان له من العمر 22 سنة، قاطعه من يشرّفني أن أحمل وإياه اسماً واحداً، وقال بلهجته اللبنانية المحببة:
"هَوْن.. بيذكّرني بيعقوب صرّوف، أديبنا الكبير، اللي بيتعلّم اليوم بصفوف البكالوريا، كان صار عمرو 24 سنه وقت اللي أنشأ مجلّة المقتطف، يللي كانت من أكبر المجلاّت بزمانا. بيذكرني بجبران يللّي هوّي ونعيمي وأبو ماضي والعصبه أنشأوا مجلّة السمير، وما كان واحد منّن عمرو فوق التلاتين بعد. هالعبقريّة، كيف بتدعيه للواحد ، بسرعة عَ بكّير، إنّو يشتغل؟!".
إبريزا شكرت رفيق على تخصيص ندوة أدبيّة عن شربل، ذلك الشاعر البعيد، وقالت له:
"بحبّ إشكرك عن شربل بعيني، هَـ الشاعر اللبناني البعيد. عادة، الناس بْيِهتمّوا بالقريب وبينسوا البعيد. وهون إلك الفضل الكبير إنّو تدير هَـ الندوة حول كتبو. لهالسبب أنا بشكرك عنّو، وبشكرك باسم كل اللبنانيي يللّي بأستراليا. مجرّد تنذكر كلمة أستراليا قدّامي، مش عارفه شو الحنين اللّي بيستيقظ بقلبي؟.. رحت سنة 84 عَ أستراليا، عند صدور كتابي لبنان جبين لا ينحني. بأستراليا سألتني الصحافة: إنتي شو جايي تعملي هون؟.. قلتلّن: جايي إتعلّم الوطنيّه منكُن. لأنّو هَـ اللبنانيي هونيك متل اللبنانيي يلّلي منعرفُن، أو، بالأحرى، بيخبرنا عنّن بيّاتنا، هَـ اللبناني الجبلي البريء، الكبير القلب، الكريم، هيك اللبنانيي بعدُن بأستراليا، كأنّن ما سافروا من جبالن العاليه على بلاد، الغربه بتاكلن، والمدنيّه بتاكلن، ضلّوا لبنانيين صافيين، وأنا كتير حبّيتُن. ولهالسبب رجعت رحت مشوار تاني سنة 88، عند صدور كتابي التاني يللّي حضرتك تفضّلت وذكرتو هلّق، اللي نلت عليه جائزة كمال المر ويبقى السؤال، وبهالوقت، يعني بالمشوار التاني، حصل لي الشرف إنّو إتعرّف بالشاعر شربل بعيني".
هنا، سألها رفيق:
"شو فيكي تعطينا عنّو هلّق؟".
فأجابت:
"طبعاً، أنا ما كان عندي الوقت الكافي إنّي إلتقي فيه تا كوّن كتير فكرة عنّو، ولكن قدّ ما هوّي بتحسّو صريح بتقدر قوام تكوّن فكرة عنّو. هَـ الإنسان بتحسّ في عندو جرح عميق بقلبو إسمو لبنان. مجرّد يشوف إنسان جايي من لبنان، بتلاقيه التهب كلّو سوا، وصار يحكي عن لبنان. وبتحسّ على إنّو عندو حرقة للعودة للبنان. رغم إنّو هوّي بأستراليا عايش كتير مرتاح، تقريباً متل معظم اللبنانيي هونيك مرتاحين ماديّاً، ولكن يبدو إنّو ليس بالخبز وحده يحيا إبن الإنسان".
وعندما طلب منها رفيق أن تنتقي قصيدة لشربل، اختارت قصيدة (وريقات من دفتر الغربة)، وراحت تقرأ بصوتها الأنثوي العذب:
غُربَتي.. صَارَتْ كَطَعْمِ الْمَوْتِ صَعْبَه
أَوْجَعَتْها زَفْرَةُ الرِّيحِ، وأَنَّاتُ الْيَنابِيعِ
وَآهاتُ الْحَصَى والرَّمْلِ والتُّرْبَه
وَدُمُوعُ ذلكَ الطِّفْلِ
الَّذِي أَضَاعَ بِالزَّحْمَةِ ربَّه..
فاسْتغاثَ كالشُّعَاعِ التائِهِ
المطْرُودِ مِن شمسِ الْمَحَبَّه:
أينَ أَهلُ الخَيْر يا أُمَّاهُ؟.. قولي،
أَيْنَ جِيراني الأَحِبَّه؟
أَيْنَ يسُوعِي الصَّغِيرُ
فَإِنَّنِي قَدْ ذُقْتُ صَلْبَه؟
وعند انتهائها من القراءة صاحت إبريزا: "يا عيني..". وصاح رفيق: "حلو.. حلو.. ليك يسوعي الصغير شو حلو؟.. كلمة يسوع بحد ذاتا بتجبلِك طفوله.. إذا قلتي: مسيح، ما بتجي طفوله معو، بيجي معو مجد.. بتقولي: يسوع، بحد ذاتا بتجيب طفوله، وقال: يسوعي الصّغير. ليك شو حلوه!!".
بعد هذا التحليل الرائع لكلمة يسوع، تابعت إبريزا القراءة:
قسّموها.. قسّموا أرضي مزارِعْ
ملأوها بالخفافيشِ وأصناف الضفادِعْ
شوّهوا الإنسانَ فيها
غَيَّروا لونَ بنيها
جعلوها، بعد علياءٍ، سفيهَه
تحملُ وشمَ العمالَه
وتبيعُ الغشَّ في سوقِ الأصالَه
وتضاجعُ، لا تبالي،
كلَّ مَن يرغبُ فيها!!".
بعدها، راح الدكتور عصام يقرأ مقاطع شعريّة من ديوان مجانين، ويحكي عن وفاء شربل لأصدقائه، وعن رحلته مع الكلمة في الوطن والغربة. وكما قلت سابقاً، سوف لن أتطرّق إلى ما قاله الحدّاد، رغم أهميته، كي أبقي الكلام لرفيق وإبريزا.
الشاعر رفيق روحانا لـم يلتقِ بشربل بعيني كالدكتور عصام حدّاد والأديبة إبريزا المعوشي، ومع ذلك نجده قد تعرّف عليه من خلال الكلمة، وراح يشرح أبعاد معرفته هذه بأسلوب شاعري رائع:
"تنين حكيوا عن شربل بعيني. تنينُن بيعرفوه، بيعرفوه بالوجّ.. أما أنا بعرفو من خلال كتبو. شو شفت بكتب شربل بعيني؟.. شفت إنسان بيحبّ لبنان حبّ عظيم. شفت شاعر عندو لدعة الغرابة والنضارة بشعرو. شفت إنسان مش قادر ينسى ضيعتو، بعدو بيحكي عن الغبار.. ما في قصيده عندو إلاّ ما بتمرق فيها كلمة غبرة. وبيمرِّق كتير مفردات مختص فيها متل: حافي، شوالات.. هَـ الكلمات هاي يللّي بتدلّك إنّو هوّي إبن ضيعه. شفت فيه كمان الإنسان اللّي مجروح وبدّو يضحك لأنّو ما بدّو يدلق همّو ع الناس، وهون بيبقى الإنسان الكبير. الكبير بيقلّك: هموم الناس بتكفيّا. شفت فيه الإنسان يللّي صادق كل الصدق، لأنّو متناقض مع حالو، بعلمك بيحبّ الحلوه، وراضي عنها، بيحطّا مطرح أللـه، بيعملا إلهة، شويّ، بقصيده من بعد منها دغري، بتلاقي خوت عليها، تاري تناقر هوّي وياها شوي، قدّ ما هو صادق ما قدر يتصنّع، حكي بكل تناقض. من شعر شربل رح إقرا من كتاب معزوفة حب، الصفحة 53، هَـ القصيدة الـ حبّيتا:.. وهيك.. في قبل (هيك) هَـ التلات نقط، يللّي بيقولولك في كتير كلام قبل ما نوصل لهون:
ـ1ـ
.. وْهَيْكْ صِرْنَا تْنَيْنْ
عَمْ نِشِتْرِي بِالدَّيْنْ
كِلْمِه تْفَرِّحْنَا
وْكِيفْ بَدّنَا كِيفْ
نْسَدِّد مْصَارِيفْ
رَهْنِتْ مَطَارِحْنَا
ـ2ـ
.. وْصِرْنَا عَ بَاب الْحُبّ
نُوقَفْ تَا نِسْتَعْطِي
وْيِنْبَحْ صَوْت الْقَلْبْ
بَرْكِي حَدَا بْيِعْطِي
تِذْكَارْ شِي صُورَه
نِتْنَوَّر بْنُورَا
كِيفْ مَا رِحْنَا
شِي شْفَافْ مَسْحُورَه
بْلَحْظَاتْ مَسْتُورَه
بْبَوْسِه تْرَيِّحْنَا
ـ3ـ
.. وْهَيْك صِرْنَا تْنَيْنْ
عَ دْرُوبْنَا عِينَيْنْ
بِدْمُوعْهَا سْبَحْنَا
وْنِرْكُضْ وَرَا الْمَجْهُولْ
عَ صَوْت دَقّ طْبُولْ
شَلَّعْ مَسَارِحْنَا
وْإِنْتِي وْأَنَا خْيَالَيْنْ
الْكِذْبِه تْمَرْجِحْنَا
الْعَتْمَاتْ تِمْسَحْنَا
إِنْتِي وْأَنَا طِفْلَيْنْ
مِنْ خَوْفْنَا صِحْنَا".
وبعد أن انتهى "سْمِيِّي" من قراءة هذه القصيدة الرائعة، بصوته الجهوري المعبّر، التفت إلى إبريزا وسألها وهو يتنهّد تنهدّات الإعجاب:
"شو بدِّك تِحكي يا إبريزا؟".
فقالت:
"متل ما قلت: دكتور عصام وأنا منعرفو شخصيّاً، يعني منعرف شكلو كيفو، إنت ما بتعرفو إلا من خلال كتاباتو، ولكن، وصفتو كأنك بتعرفو، لا يقل عن عشر سنين".
فقاطعها رفيق قائلاً:
"في شغلتين تلاته بعد.. ليكي شو اشتلقت إني بعرف عنّو. اشتلقت إنّو بيحبّ الطرب، وفي بحياتو شي مطربه معذّبتو، كاتبلا شعر كتير. في بمعزوفة حب سبع تمان قصايد كلتهن عن الصوت الحلو. أنا بفهم شو معناتُن".
فضحكت إبريزا وتمتمت:
"هيك.. أنا ما بعرف"..
فتابع رفيق كلامه:
"كمان، حسّيت على شغلة عندو، إنّو بيحبّ.. وعندو قدرة إنّو يحب كتير وبسهولة".
فقالت إبريزا:
"متل ما ذكرت أنا، إنّو رغم قصر الفترة الزمنيّة يللّي شفتو فيها، ولكن كتير بتقدر تعرف عنّو إشيا قدّ ما هوّي صريح، وديناميكي، وبدّو يعطي، وبدّو يعمّر، وبدّو يبني، وبدّو يخرِّب، وثورجي.. عرفت كيف؟ لهالسبب بتلاقي عندو غزارة إنتاج، عندو شي هَـ الإنسان بقلبو، بصدرو، بدّو يطلّعو ومنّو عارف شو هوّي".
فقاطعها رفيق قائلاً:
"عندو ثورة كبيرة، اختصرا: بدّو يقصقص صابيع اللّي انتخبوا". فقالت إبريزا: "هوّي معو حقّ، ونحنا منشاركو فيها، ولهالسبب وصلنا لهون".
وبعد أن دافع الدكتور عصام عن شربل بعيني دفاعاً مقنعاً، راح الشاعر رفيق روحانا يطلعنا على "لمعات بلاغة ولا أروع عند شربل بعيني" على حد تعبيره، ويصيح عند الإنتهاء من قراءتها: "يخرب بيتك ما أروعك يا شربل بعيني".
وعن ثورة شربل التي تتفجّر بكل قصائده، قال رفيق:
"هَـ الروح الثوريّة اللي عند شربل، مش بس فيها ثورة، فيها طفولة عم تعمل ثورة، يعني، حلو الولد الزغير بصدقو وببراءتو يقلّك: بدّي هبِّط يللّي تعمّر غلط. مش عم يتملعن بالثورة. ثورتو فيها براءة طفل، صحيح عم بيقول الحقيقة".
وعلّقت إبريزا:
"مظبوط.. ثورتو للعمار مش للدمار. ثورة حب وجمال..".
وأكمل رفيق: ".. وحرقة بالقلب".
الندوة الإذاعية طويلة ورائعة، ومن غير الممكن نشر كل ما جاء فيها، لذلك سأكتفي بهذا القدر، وأطلعكم على إحدى رسائل رفيق لشربل، المرسلة بتاريخ 16/11/1991:
"خيي شربل.. أللـه معك..
بعد تحيّة من صميم القلب، وتمنّي إنّك تكون موفّق بالصحّة والعمل، ومبدع بالشعر، بحبّ إنّي قلَّك، وبكل صدق وصراحة، إنّو رسالتك كانت أطيب رسالة استلمتا بحياتي. حسّيت إنّو الشعر أكبر من الحبّ، بيجمع وبيقرّب، ولو كانت المسافة بين القارات.
يا خيّي شربل..
من حوالي سنتين تعرّفت عَ شعرك وعجبني. اليوم تعرّفت عَ الشاعر الطيّب القلب، الغني بالفكر، النبيل بالعطاء، الوفي الشهم. هَـ القِيَم كلاّ بتخلّي الإنسان يشعر إنّو الدني حلوة، خصوصاً بعد ما ضاعت القِيَم بأرض القِيَم. ياي شو صرت حابِب إتعرّف عليك عن قريب يا خيّي شربل. اللّي متلك خسرُن لبنان بالوجود المادّي، بسّ ما خسرُن بالوجود المعنوي. إنت كنز للبنان وللشعر وللصداقة.
أكتر من مرّة، كان يحكيلي عنّك خيّي الشاعر عصام حدّاد، وكنت قلّو: أنا متخيّلو أعظم مما عم تحكي يا عصام. من وين أنا بعرف هَـ القدّ؟.. من شعرك اللّي كلّو جمال ونبل وشهامة وثورة، وشي جديد بيقول إنّو صاحب هَـ الشّعر إنسان عظيم.
ما بعرف ع شو بدّي إشكرك برسالتك، بسّ أعظم شي هزّني هوّي هَـ القصاصات من المجلاّت اللّي فِيا كلام عن المرحوم بيّي، لو بتشوف إمّي قدّيش بكيت فرح لمّا شافت رسالتك، وهيك مرتي وولادي وإختي وخيّي وكل الأصحاب اللّي خبّرتن ع محتوى هَـ الرسالة.
انشاللـه يا خيّي شوفك بعيني، مش بسّ بفكري. عَ كلّ حال لسان حالي بيقول: شربل بِـ عيني وقلبي وكل حواسي.
رح وصّل سلامك لإبريزا وعصام. بسّ كون أكيد رح توصل تعزيتك ببيّي لكل إهل وادي شحرور، ولكل أصحابي، لأني ما رح إترك حدا ما خبّرو عن هَـ التصرّف النبيل اللي صدر منّك، بركي بيصير الوفا عنوان لكل اللّي نسيوا شو هوّي الوفا".
لقد أجمع الثلاثة الكبار: إبريزا ورفيق وعصام، على وفاء شربل لأصدقائه، وأنه يحافظ عليهم كما يحافظ المرء على بصره وحياته. وأنه، مهما تقلّبت الظروف، لن يغدر بواحد منهم. فالغدر ليس من طبيعته، وهذا ما لمسته شخصياً بعد سنوات معتّقة عشتها برفقة شربل بعيني.
ولأن النصيحة بجمل، كما يقول المثل الشعبي، سأنهي كلامي بهذه النصيحة التي قدّمها رفيق روحانا لشربل:
"متل ما طلع شربل من الضيعة، بدنا ياه يرجع ع الضيعة، ولو كانت أستراليا بدّا تزهّرلو رملاتا دهب، لازم شربل يرجع، مطرحو هون، والشعر الْـ عم يكتبو ما بيكون فيه جمال وقوةّ إلاّ إذا نبت بأرض مجدليا".
**