صقران من الأردن

أحمد موسى شاكر العمران وعاصم عبده فرج إسمان لامعان في عالـم التلفزة العربيّة. كانا يعملان، يوم التقيا بشربل بعيني في المربد الشعري عام 1987، في تلفزيون المملكة الأردنيّة الهاشميّة، فتوطدت بين الثلاثة أواصر صداقة، عملوا المستحيل كي تستمر، وكيف لا تستمر وقد بنيت على أسس متينة من الأخوّة والاحترام والتقدير.
رسائلهما لشربل بعيني كثيرة، لذلك سأطلعكم على بعضها كي تدركوا مدى انتشار أدبه في الأقطار العربيّة، ومدى إعجاب الذين اطلعوا عليه. وكما تلاحظون، فأنا أستعين بكلام مؤرّخ، كتبه أناس كبار وعظماء عن أدب شربل، هم، في كثير من الأحيان، أشهر وأكبر وأعظم من شربل بعيني. فما قيل قد قيل، وما كتب قد كتب، وما على الدّارس سوى الحصاد، والإستشهاد بما حصد، ونقله بأمانة، لا حبّاً بشربل، بل احتراماً للتاريخ وللعمالقة الذين صنعوه.
ومن رسائل العمران لشربل أختار رسالة مؤرخة في الأول من أيلول 1988، وفيها يقول:
"وصلت رسالتكم المزدانة بالأدب، والمعطّرة بالحب، في وقت كنت موجوداً به في مصر لحضور دورة تدريبيّة مدتها ثلاثة أشهر، وحين عودتي، وجدت تلك الرسالة المحملة بالحب والخلق. وجدت فيها كثيراً من الذكريات التي ستبقى لنا، دوماً، المشعل الذي ينير دروب الشعر والأدب.
أشكركم جزيل الشكر، وعظيم الإمتنان، على ما أتحفتمونا به، والذي إن دلّ فإنّما يدلّ على المصداقيّة الأخويّة التي تربطنا بكم، وعلى الروح الشاعريّة التي تتحلّون بها.
أخي شربل..
إنّني أعتذر شديد الإعتذار لأنني لـم أكن موجوداً في ذلك الوقت الذي جاءت به (باسكال) إلى الأردن. فأنا لا أدري إذا قدمت أم لا.. وقد سألت عنها بعض الزملاء، فقالوا لي لـم تأتِ، والبعض الآخر لا يعرف، علماً بأنني كنت موجوداً في القاهرة.
إنني على أتـم الاستعداد لتقديم أيّة خدمة أستطيع أن أقدّمها لأي إنسان من طرفكم. أنتم قدّمتم لنا الكثير، ولكنّني، وللأسف، لـم أقدّم لكم أيّة خدمة، وإنني على استعداد لذلك، إذ أنني أعتبر نفسي أخاكم الصغير.
أخي شربل..
لقد كنتم السبّاقين دائماً، وأصحاب الجميل، وإنني مشتاق لرؤيتكم والتحدث معكم. لقد قرأت كل الأشعار التي وصلتني، آخرها (أللـه ونقطة زيت)، وهي جميلة جداً، وإنني أحفظ قصيدة (لعنة اللـه علينا)، وقد أسمعتها لزملائي وأصدقائي فكرروا علي قراءتها.
أرجو أن نكون عند حسن ظنّكم بنا، واللـه لقد بكيت عندما قرأت كتاب (باسكال.. وطن واقف على المسرح)، لما فيه من وصف جميل، ولأنني لـم أكن قريباً منها، ونحن في خدمة كلّ أخٍ عزيز. أتمنى أن تزور الأردن في الأيام القادمة".
يتضح لنا من هذه الرسالة أن شربل يخدم أصدقاءه قبل أن يخدم نفسه، فحين أخبرته باسكال صقر أنها مدعوّة إلى مهرجانات جرش، أتصل سراً بأصدقائه الإعلاميين في الأردن، وطلب منهم تسليط الأضواء على زيارتها، وتقديم المعونة الإعلاميّة لها، كي تنجح فنيّاً وإعلامياً، ومن خلالها ينجح وطنه الغالي لبنان، فشربل بعيني يؤمن أن نجاح اللبناني، في أي مجال، هو نجاح للبنان. وأذكر عندما كان مسؤولاً في رابطة إحياء التراث العربي كيف كان يعمل المستحيل من أجل تكريم أصدقائه، وترشيحهم لنيل الجوائز، غير عابىء بالنتائج، المهم تحريك الحركة الثقافية والفنيّة في المهجر، وإعطاء الحقّ لكلّ صاحب موهبة.
وكما تمنّى الدكتوران عصام حداد والأب يوسف السعيد لقاء شربل بعيني في المربد التاسع في العراق، هكذا تمنى، أيضاً، أحمد موسى شاكر العمران في رسالة أرسلها بتاريخ 14/10/1988:
"بادىء ذي بدء، أتوجّه بالسؤال عنكم صحةً وعملاً، داعياً لكم بالتوفيق في كل ما تصبون إليه.
لذا، فإنني أشكركم جزيل الشكر على ما أتحفتمونا به من كتب قيّمة، فحواها نتاج أدبي يستحقّ كل ثناء وإعجاب وإجلال. فمكتبتي الصغيرة تزداد نوراً وإشراقاً، وقد أصبحت كبيرة، تحتوي على الأدب والشعر اللذين لـم تكن تحويهما من قبل، حقاً إنها هدية من صديق عزيز وأخ كبير.. أستاذنا شربل بعيني
إنني مشتاق لرؤيتكم والتحدث إليكم، ولن أنسى تلك الرحلة التي أزداد من خلالها شرفاً وإكباراً، وأتمنى أن نلتقي هذا العام في مهرجان المربد الشعري في العراق.. إن شاء اللـه".
وعلى بطاقة ميلادية، تمنّى عاصم عبده فرج ما تمنّاه صديقه أحمد، بأن يلتقي أيضاً بشربل، وإليكم بعض ما كتب:
"أنا مشتاق إليك كثيراً، واللـه ما نسيتك، وما نسيت الأيام القليلة في بغداد. نحن نستأهل أكثر من كلمة مرحبا، وأتمنى أن نتقابل ثانية.
أشكرك كثيراً على هذه الكتب الجميلة وعلى هذه الأشعار، وأتمنى لك دوام التوفيق والنجاح في هذه السنة الجديدة، أعادها اللـه عليكم، وعلى لبنان، بموفور الصحّة والرفاهية والحنان".
وعلى بطاقة أخرى، تمثّل العادات الأردنيّة الصميمة، كتب عاصم هذين السطرين، لا غير، المثقلين بالمعاني الكبيرة والتطلعات الإنسانيّة:
"أرسل لك هذا (الكرت) عن بلدي الحبيب كي يبقيني في ذكراك كلما نظرت إليه. ولن أنساك أيها الصديق".
ألا تقولون قولي إن هذين السطرين يختصران آلاف الكلمات؟ فعاصم يحب بلده الأردن، ويريد أن يحبّب شربل به، فأرسل له بطاقة من التراث الأردني، تمثّل رجلاً بدويّاً نصب فخاً في الصحراء الأردنيّة لاصطياد الصقور، وراح ينتظر وصول الأمل، وكأن عاصماً أراد أن يخبر صديقه شربل، بطريقة غير مباشرة، أن الأردن ينتظر وصوله أيضاً. أما ليس هو وأحمد، من عرضا على شربل فكرة الإشتراك بمهرجانات جرش السنويّة؟.. هذا هو الوفاء العربي الخالص، وهذه هي الصداقة الحقّة.
وها هو أحمد موسى شاكر العمران، في رسالة مؤرخة في 15 شباط 1988، يرجوه أن يحضر مهرجان جرش، دون أن يعلـم بأن شربل قد اتخذ قراراً بعدم المشاركة بأي مهرجان أدبي أو فنيّ في الوطن العربي بعد خضوعه فور وصوله من العراق، للإستجواب في مطار سيدني، من قبل المخابرات الأسترالية. وقد أخبرني المرحوم فؤاد نمّور قصّة تثبت أن المخابرات الأسترالية تنصتت على محادثات شربل بعيني الهاتفيّة إثر رجوعه من العراق، لفترة زمنية طويلة. والقصّة تقول إن فؤاداً اتصلّ بشربل هاتفياً، وأخبره أن ابن أخيه مسؤول كبير في المخابرات الأردنيّة، وقد أتى إلى أستراليا بطريقة سريّة، كي لا يعرفه أحد، بغية الإطمئنان عن صحّته. وأخبره أيضاً أنه يريد أن يتعرّف عليه شخصيّاً بعد أن قرأ الكثير من أشعاره. فما كان من شربل إلاّ أن صاح:
ـ أعطهم خمس دقائق فقط، وسيصلون إلى بيتك يا أستاذ فؤاد..
ـ من هم.. قل لي؟
ـ رجال المخابرات الأستراليّة.. أما أخبرتك أنهم يتنصتون على هاتفي؟
ـ بلى..
ـ إذن، قل لابن أخيك أن يحضّر نفسه لاستقبالهم..
ـ لا تخف يا شربل.. بعد نصف ساعة سنكون نحن عندك..
وبعد ساعتين من الانتظار، اتصل شربل بصديقه، وسأله عن سبب تأخّرهم، فما كان من فؤاد نمّور، رحمه اللـه، إلاّ أن صاح:
ـ إنهم في بيتي.. يخرب بيتك يا شربل.. كيف عرفت أنهم سيصلون بعد خمس دقائق؟
ـ وماذا سيفعلون بابن أخيك؟
ـ إنهم أصحابه.. وقد عاتبوه على عدم إعلامهم بمجيئه.. كما أنهم عرضوا عليه حراسة خاصّة..
ـ سلّم لي عليهم، وقل لهم أن يتركوني وشأني، فأنا لست مجرماً ليتنصّتوا عليّ.
وإليكم ما جاء في رسالة أخينا أحمد:
"أشكركم جزيل الشكر على رسالتكم الكريمة، وعلى ما تحويه من مصداقيّة وعمق أدبي، حصيلته ونتاجه خير دليل على آدميّة وأخلاقيّة صاحب هذا النتاج الذي فحواه الشمولية، التي تغذّي العقل بإشراقة جيل جديد، صاحب فكر، له وقع وأثر في الحياة الإنسانيّة.
إن ديوان كيف أينعت السنابل؟، هو في الحقيقة، مشهد فذّ فريد.. بناء شاهق عريق.. عطاء فكري متواصل، مفعم بالوطنيّة والاحساس الصادق والبعد القومي الشامل.. طرح موضوعي رصين.. شاعريّة جذّابة.. أسلوب سلس، عذب المنطق والعبارات.. إنه نتاج ضخم.
عزيزي شربل..
لقد وصلت رسالتكم في 8/1/1988، ووصل معها الشوق والحنين والأدب والفكر. وصلت في المساء، وكانت تلك الليلة فرحة كبيرة لي وإخواني جميعاً، فأعجبوا بها وقالوا: إنه صديق صادق. وأرجو يا صديقي أن نكون عند حسن ظنك، فأنا في الحقيقة لست شاعراً، ولا كاتباً، وأرجو أن تتقبّل رسالتي على ما تحويه، وأن تغفر لي أخطائي الإملائيّة والإنشائيّة.
إنني مشتاق لرؤيتكم والتحدث إليكم، كي نعيد الإبتسامة ونجدّد الضحك هنا في الأردن، وفي (حسبان) مسقط رأسي، وأرجو يا أخي أن تحضروا مهرجان جرش، إذ أن أسعد أوقاتي هي رؤيتكم. كما أرجو أن تزوّدونا بأخباركم وأشعاركم الجميلة".
رغم أسلوبه الشيّق في صياغة الرسائل، نجد أن العمران يعترف لصديقه شربل بأنه ليس شاعراً أو أديباً، ليخط له الرسائل العرمرميّة المحشوّة بالصرف والنحو. إنه إبن الصورة، ورفيق الكاميرا، يلحق الأحداث إلى سابع أرض. إنه باختصار شديد يكتب بالصورة، كالشاعر تماماً، ولهذا اندمج فكره بفكر شربل بعيني، وطابق عقله عقل شربل بعيني، وتعملقت صداقتهم رغم بعد المسافة بين (الجزيرة المعلّقة بكعب الأرض) وأردننا الحبيب.
وكي أكون منصفاً مع الكلمة الجميلة الأخّاذة، أعترف أنني أخذت جملة (الجزيرة المعلّقة بكعب الأرض)، من عبارات كتبها الشاعر فؤاد نعمان الخوري في 14/11/1988، يوم أهدى ديوانه بين تذكرتين لشربل بعيني، وفيها يقول:
"إلى الصدبق الشاعر شربل بعيني، الذي رفع إسم الأدب اللبناني إلى مصاف الأسماء العالميّة، ومهّد الطريق للكتابة والطبع في هذه الجزيرة المعلّقة بكعب الأرض".
وعندما صدرت دراسة الأديب السوري محمد زهير الباشا شربل بعيني ملاّح يبحث عن اللـه، كان أحمد من أوائل الذين أهديت إليهم، فكتب في 18 آذار 1989، هذه الرسالة المعبّرة:
"الأخ العزيز شربل بعيني.. ملاّح يبحث عن اللـه.
بعد التحيّة.. يشرّفني أن أبعث إليكم، بعد غياب طويل، بهذه الكلمات. فأنا لـم أتمكن من الردّ على رسالتكم الكريمة، التي تحمل في طيّاتها الحبّ والشعر والأدب، وأشياء كبيرة في معانيها. كما أنها تطرق مواضيع حيويّة من خلال الأدب والفكر، وهذا يدل على عقليّة منفتحة، تتعايش مع كلّ ما هو واقع، وتعالج كل ما هو مطروح بواقعيّة وشموليّة وموضوعيّة.
أخي العزيز شربل..
أشكرك جزيل الشكر، وعظيم الإمتنان، على الكتاب القيّم شربل بعيني ملاّح يبحث عن اللـه، وعلى مجموعة الكتب القيّمة التي وصلت من طرفكم، فما هي إلاّ تحفة أدبيّة أقبّل صفحاتها الأدبيّة والفكريّة".
أحمد موسى شاكر العمران وعاصم عبده فرج إسمان جديدان دخلا فهرس أدبنا الإغترابي من بابه الواسع، تماماً كما دخله العديد من أصحاب الكلمة الماسيّة الأحرف، والأخلاق الرفيعة التي تتشامخ في غربتها كالقرنة السوداء وقمم جبل الشيخ.
ورغم اعتراف الصديق إبراهيم سعد بأنه لا يملك ناصية الكلمة، إلاّ أنه كأحمد وعاصم من أصحاب الأخلاق الرفيعة والكلمة الصادقة، وإليكم ما قال في هذه الرسالة المعبّرة:
"عزيزي الأستاذ شربل..
تحيّة طيّبة وبعد،
رغم أنني لا أملك ناصية الكلمة مثلك، ولكنني أود أن أعبّر عن شعوري نحوك قدر المستطاع، لذلك كتبت لك هذه الكلمات المتواضعة تعبيراً عن مودّتي الصادقة.
قرأت ما جاء في لقائك مع السيّد علي سلطان، بحّار من باكستان، فسررت به، وصدق المثل القائل: وحدها الجبال لا تلتقي. كذلك سرّني أن يصل شعرك إلى تلك البلاد ليترجم إلى لغتها أيضاً، وهذا مدعاة فخر واعتزاز لك ولمحبّيك.
والآن، ومع قرب إطلالة عيد ميلاد المسيح، مسيحنا إلى العالـم، وعيد الفطر السعيد، ورأس السنة الميلاديّة، حيث تبدأ الألفيّة الثالثة، يطيب لي أن أبعث لك ولعقيلتك وعموم أفراد عائلتك، ومن يلوذ بكم، باسمي واسم عائلتي، بأحر التهاني وأطيب التمنيّات بدوام الصحة والعافية، واطراد النجاح في عالـم الشعر والأدب ولو كره المعكّرون. ولك منّي ألف تحيّة، وألف مبروك لك بالإمارة مرّة ثانيّة خطيّاً بعد المباركة الأولى على الهاتف:
الصداقَه تعزيه وبلسم بيداوي
جروح النفس من كلّ المساوي
وإذا بتكون مع شربل بعيني
بتهزم للأبد كل العداوِه".
الأصدقاء كالسنونوات المهاجرة، لا يمكنها أن تعيش خارج أسرابها، ونحن هنا في غربتنا هذه يجب أن نحصّن صداقتنا أكثر، وأن نلقّحها بلقاح الوفاء كي تستمر وتتفاعل.. وصدق الأب بولس نزهة حين كتب في بطاقة أرسلها لشربل في 12 تمّوز 1993 ما يلي: "عندما تغادر السنونوة المهاجرة الأسراب الطائرة، تردّد على مسامعها: غداً نلتقي".
آمل أن تلتقي سنونواتنا بعد فراق، لتكوّن أجمل سرب عرفه تاريخ اغترابنا. فالغربة، يقول المثل، تضيّع الأصول، لذا وجب علينا التصدي لها بالمحبّة والإتحاد.. قبل أن تجرّنا من آذاننا وتجعلنا مضحكة الأجيال.
**