الأب يوسف السعيد: شربل بعيني هزّ المربد الشعري في العراق

الأب الدكتور يوسف السعيد، شاعر عراقي معروف، مؤلفّاته عديدة ورائعة، منها: الموت واللغة 1968، ويأتي صاحب الزمان 1986، وطبعة ثانية للتاريخ 1987، وغيرها. جاء من السويد، حيث يخدم رعيّته السريانيّة، للمشاركة بالمربد الشعري الثامن في بغداد، فأعجب بقصيدة شربل بعيني المربديّة، وأعترف، كغيره من الشعراء، أن شربل بعيني قد هزّ المربد الشعري الثامن بقصيدته الشهيرة "أرض العراق أتيتك".
ولدى مراجعتي لبعض كتبه، وجدت إهداء مكتوباً بخط يده على الصفحة الأولى من ديوانه طبعة ثانية للتاريخ، الذي أهداه لشربل يوم التقاه في العراق عام 1987، يثبت صحّة ما قلته سابقاً.. والإهداء يقول: "شربل بعيني.. صوت صارخ في بريّة الشعر، منادياً اجعلوا طريقه مستقيمة. مبارك هو شربل الذي هزّ اليوم ألفي شاعر في مربد بغداد الثامن".
وما أن رجع إلى السويد، حتى أرسل في 14 كانون الأول 1988، رسالة إلى شربل، أقتطف منها الآتي:
"العزيز جداً الشاعر شربل بعيني المحترم
مودّة شاعريّة طيّبة..
تنساب كلماتك بتؤدة فوق طرس الكلمة في جرائد المهجر، أستشف ذلك من جريدة صدى لبنان التي وصلتني. كنت رائعاً جدّاً، ونفسك الأدبي أصيل، طالع، واكتب، وانشر. رجاء زوّدني بدواوينك كي أكتب عليها وعنها ما يريحك ويريحني. أيّامنا في بغداد والمربد ولقاءات حميمة مع الشعراء لن تنّسى إطلاقاً".
وبناءً لرجائه، زوّده شربل ببعض مؤلفاته، فأعجب بها الأب الجليل أشدّ الإعجاب، وكتب عنها دراسة أدبيّة بعنوان "الشاعر شربل بعيني نقاهة لمجتمع مغترب"، نشرتها له جريدة صوت المغترب في 19 أيار 1988، العدد 987، وها أنا أعيد نشرها كاملةً نظراً لأهميّتها:
"إلتقيته للمرّة الأولى في بغداد، في المربد الثامن للشعر، طويل القامة، في بؤبؤيه علامات جرأة أدبية نادرة، صوته عالٍ ليس فيه امتداد، الجملة تأتي شفّافة على شفتيه، وبصلابة يتكلّم، وينتج بسخاء، كأنّه النبي الذي أرسله اللـه إلى شعبٍ، وهو بينهم نذيراً وبشيراً، يعطي دور النقاهة لأولئك المعذّبين في معامل أستراليا، مسحوقين من فرط ضجيج المطرقة والسندان، وضوضاء الآلة، في معامل صناعيّة ضخمة، وهي لا ترحم إطلاقاً، ولا تراعي شعور عاطفة الإنسان، الإنسان، من أي جهة جاء، ومن أي مكان انطلق، وإذا عُدّ الشعراء في أستراليا على أصابع اليد، فشعراء العروبة أقلّ من ذلك بكثير، والشاعر لا يحكم، ولا يعمل بأوامر تصدر إليه، هو الذي يرغم القصيدة أن تخرج من حجالتها، وتعطي قوة، وصلابة، وراحة، لكلّ المعذّبين، لا سيّما عمّال شلحتهم الغربة على سواحلها البعيدة. لا سيّما أستراليا التي التهمت كل المسافات، بعد أن جرّدتهم من اللغة، والتقاليد، والطعام، والعادات. كل شيء لا يشبه لبنان.. من ذلك المنطلق البعيد، صرخ يناغي ويناجي، ويستنجد الطبيعة لا الناس:
خبّيئيني، يا بلادي، تحت شالِكْ
واسكبيني ضوءَ شمسْ
كي أشيل الليل من قلب رجالِكْ
وأقيم كلَّ يوم حفلةً ساهرةً
فوق الحواجز والمعابرْ
وأمام كلّ حبسْ
وعلى وجه الطفولَه
أرسم الحلْمَ المسافرْ
وردةَ حبٍّ خجوله
وأناشيدَ، وهيصاتٍ، وعرسْ..
والشعر عند شربل بعيني، ليس أهزوجة زجل فقط، ولا ذبذبات حفلة فيها روائعه، فهو شاعر، واللغة الزجليّة فيها مسحة من الأصالة، والتجديد، والسمو:
وكنت ع بابِك وقفت سْنينْ
حامل كمنجه وباقة رْياحينْ
تا كيف ما تروحي وتجي ع البيت
غنّي لْعُيونِك أجمل تْلاحينْ
وشربل لا يحتقر نفثات يراعته، وما تنزّ من شفرتيها، يحتفظ بكل شيء، ويقدّمه إلى القارىء الذي يكنّ له كل محبّة ومودة واحترام، وقد جمع كل ذلك في كتب، عليها مسحة من الأصالة، والجودة، والعطاءات الفكريّة الرائعة. وهو إذ يحرّك أقلام المهجريين، يعطينا رسماً آخر، ونكهة أخرى.
وإليكم ثبتاً بقائمة مؤلّفاته: مجانين، الغربة الطويلة، مراهقة، قصائد مبعثرة، إلهي جديد عليكم، مشّي معي، رباعيّات، من خزانة شربل بعيني، كيف أينعت السنابل؟، من كل ذقن شعرة، قصائد ريفيّة، أللـه ونقطة زيت، يضاف إليها ثلاثة أجزاء من شربل بعيني بأقلامهم، لمعدّه الأستاذ كلارك بعيني.
يده تنقل إلينا ما ينسجه عقله، هو المتكىء في مجالس الشعب، ويقهقه على الزمان، وسراجه لا ينضب زيته، ولا تنطفىء فتيلته.
شربل بعيني، يبقى المدماك ، الحجر الذي رفضه البنّاؤون، فأصبح رأس الزاوية، العازف على قيثارته قصائده، ليريح شعباً حذفه الوطن إلى السواحل البعيدة.
أكتب، ففي شعرك عزاءٌ تقطف ثـماره من فردوس الروح".
إذن، فشربل بعيني، بنظر الأب الدكتور يوسف السعيد، هو الحجر الذي رفضه البنّاؤون، فأصبح رأس الزاوية. هو المدماك، وهو المتكىء في مجالس الشعب، العازف على قيثارته قصائده، ليريح شعباً حذفه الوطن إلى السواحل البعيدة.
هذا هو شربل بعيني، الذي سراجه لا ينضب زيته، ولا تنطفىء فتيلته. ولو لـم يكن هكذا، لما حُظي بكل هذا الإهتمام الأدبي من كافّة أقطار المعمورة. وما أظهرته، حتى الآن، لدليل قاطع على صحّة ما أقول.
وفي رسالة أرسلها بتاريخ 17 نيسان 1988، نرى أن الأب السعيد بدأ يغوص بروحانيّات شربل، إثر استلامه ديوان أللـه ونقطة زيت، الذي تُرجم إلى الإنكليزيّة، وإليكم ما كتب:
"العزيز وقرّة العين شربل بعيني المحترم
مودّة طيّبة، أطيب من المنّ الصباحي..
استلمت رسالتك، مع كتابين أللـه ونقطة زيت، وشربل بعيني بأقلامهم، رقم 3، وشكراً مع فائق إمتناني. إنك عبارة عن دينمو استمراري، إنك جزء حي من حركات الفلك. بارك اللـه فيك، وأخذ بيدك، تعمل وكأنّك أكثر من شربل، وتقف على ضفة النهر، فإذا أنت وحدك، وإنّما رجل الدنيا وواحدها من لا يعوِّل على رجل. نبضك يتحوّل إلى أنباض. أصابع يدك أكثر من خمسة. تعمل كخليّة نحل، غير مبالٍ، ولا هيّاب. بوركت، ومباركة هي غلال إنتاجك. قمحك مبارك، وبيادرك حلّ فيها أكثر من ملاك ليسامر إمرأة منوح.
أللـه ونقطة زيت، وجدانيّات، مع وجوديّة صارخة، ونقد للـه، وليسوع، وللإنسان. ولولا نقد عمر الخيّام ما تذوّقنا شعره، وتقبّلناه بهذه الرحابة العالميّة. وتستطيع أن تنتقد اللـه، وتعارض يسوع، لكنك لا تستطيع أن تنتقد راهباً، أو راهبة، أو قسيساً. رجاء حاول أن تبتعد عن ممارسة العنف في قصائدك. لكن أدبيّات الزجل أكثر حريّة من الشعر الكلاسيكي.. واللبناني يغرق بحر اللـه باعتراضاته، وبشكوكه، وتأوهه. أكتب، أكتب، أكتب، الجالية في كل مكان تتنفّس من رئة واحدة، والأديب يتنفّس برئتين، ويجعل القارىء يحسّ بحريّة الراحة، وهو يلتهم قصيدة في غربته. ولولا الشاعر لكانت سماء الإغتراب بلا مطر، ولا غيوم، ولا سحب. الشاعر وحده يجعل القارىء أن يحس، وكأن السماء قد ازدادت زرقةُ جمالها، وبانت أخّاذة ورائعة. هل تعلم أن الشعراء سيحكمون هذا العالـم؟، في زمن يتعب فيه صوت البندقيّة، ويختفي من مجالس الناس السيف، والخنجر، والسكين. وحده الشاعر يستطيع أن يوحّد طبائع الحيوانات في طبع واحد، فينام الدبّ مع الجمل، والأسد مع الثور.
إذاً، مباركة هي شفرة يراعك، وأرجو لك الإستمراريّة والعطاءات الكثيرة، ولا يغريك صوت الدرهم، لئلاّ يقال عنك ما قاله المعرّي: وما أشقى من راغب في ازدياد.
لتظلّ يدك على سكّة الفدّان، واحذر أن تتراجع، ونحن بكل هواجسنا معك".
وبما أن الأب الدكتور يوسف السعيد مغترب مثلنا في بلاد السويد، نجده يكثر من المفردات الإغترابيّة، التي نرددها دائماً، كالإغتراب، والجالية، والسواحل البعيدة، والمهجريين، والغربة، والمعامل، وضوضاء الآلة، والمهجر وغيرها. كما أنه لا ينسى المال، السبب الثاني في هجرة الناس، بعد الإضطهاد طبعاً، فيحذّر شاعرنا من إغراءاته الكثيرة، كي لا يقال عنه ما قاله المعرّي. وبما أن شربل بعيني أبعد ما يكون عن المادة وإغرائها، طالبه أبونا السعيد بأن يكون الفلاح الماهر الذي يفلح حقله، ويده دائماً وأبداً على سكّة الفدان، كي لا يتعرّج الثـلم، وتتشوّه الحراثة.
ومن كثرة شوقه للقاء شربل، طلب منه في رسالة أرسلها بتاريخ 5 تموز 1988، أن يراقب ويراجع دعوته إلى المربد التاسع، ولـم يكن يدري أن شربل قد أخذ قراراً بعدم المشاركة، وإليكم بعض ما كتب:
"إن هذا العالـم لا يغذّيه سوى قلم كاتب أصيل مثلك. فاكتب، ولتكن شجاعتك كشجاعة قدّيس، أو كنبيّ حاولوا طرده من المدينة، أصرّ على البقاء، فرجموه، فكانت دماؤه حبراً أبدياً للخلود.
سنلتقي في المربد لتاسع، وعليك أن تراقب وتراجع دعوتك. هل لي أن أقول لك، مدفوعاً من حبّي وغيرتي والتأمّل في مستقبلك؟. ترى ماذا تكتب؟.. ما ترسم؟.. وكيف تسوح تلك البلاد القصيّة؟.
آمل أن أسمع صوتك، أيّها العزيز مار شربل، قدّيس أستراليا، وطيورها الجميلة".
ولـم يكتفِ الأب السعيد بتشبيه شربل بـ"قديس أستراليا وطيورها الجميلة"، بل شبهه، مرة ثانية، في إحدى رسائله المؤرّخة بتاريخ 22 أيلول 1988، بـ"الشاعر الأيل"، والتشبيه، كما تعلمون، مستوحى من مطلع المزمور القائل:
كما يشتاق الأيل إلى مجاري المياه،
كذلك تشتاق نفسي إليك يا أللـه.
ولو لـم يكن مطلق هذه التشبيهات كاهناً، لكنت أول من يستغربها، رغم روحانيّتها ودفئها. وإليكم نهاية رسالته:
"آمل أن نلتقي في يوم ما في إحدى النوادي التي تملكها الجالية، لأقرأ شعري، وتقرأ زجلكم الرائع جدّاً.
بقدر ما يتقلّص ظلّ الأدب، بقدر ما تكون هناك حلاوة فيه. والأدباء نادرة هذا الزمان والقارورة الغالية الثـمن.
سنلتقي، أكتب إلي. أنا قصيدة ظمآنة إلى ينابيعك أيّها الشاعر الأيل".
ولـم يُخفِ الأب السعيد إعجابه بدراسة ابن بلدي محمد زهير الباشا، فراح يكيل الإطراء له في رسالة أرسلها لشربل بدون تاريخ:
"وصلني، واستلمته مع الشكر، كتابكم شربل بعيني ملاّح يبحث عن اللـه، بقلـم المحلّل الأدبي الرائع محمد زهير الباشا. والكتاب في تحاليله رائع، ومشوّق، وأخّاذ، وربّما كان مصدر تنفيس للمؤلّف الكريم، حاملاً على شفرتي يراعته غضبه من دنيا يعيشها، ولا يجد من يحترم مقدّسات هذا الوطن الكبير الذي أنجبنا. شكراً لكم، وأجزل الشكر للمؤلّف الجليل.
أنتم نقرة على طبلة الإغتراب، ونبضة مشلوحة على أوتار الكلمة، تعيدوننا إلى عالـم واقعنا ونحن على ضفاف الإغتراب، وشعركم بالعاميّة أشدّ فصاحة وتعبيراً من الفصحى".
إعتراف الأب السعيد بأن شعر شربل بالعاميّة أشدّ فصاحة وتعبيراً من الفصحى، لـم يكن الأول من نوعه، فلقد سبقه إليه الأستاذ حسن درباس عام 1983، يوم كتب في جريدة النهار المهجريّة، العدد 348، أن لغة شربل بعيني العاميّة "فيها بلاغة تفوق فصاحة أصحاب علم الكلام المهجري".
في التاسع والعشرين من شهر حزيران سنة 1990، أصيب الأب السعيد بالدهشة حين وصله ديوان أحباب، وسبب دهشته كانت رسوم الفنان جورج حدّاد التي زيّنت الكتاب، فلنقرأ ما كتب:
"دهشة الحرف الواقف بين يديك أنموذجاً حيّاً مشرشراً كزغاليل إضمامة من نور بهيج، يتسلّق شعفات من جبال العاطفة الرقيقة في يراعتك الذكيّة، مسافراً عبر الدروب الجبليّة، رابضاً كلبوة جميلة ترمق الوهاد والشعاب، تراقب الطرق خوفاً على أجرّائها.
كنت ذكيّاً في أحباب، ديوانك المولود جديداً. مباركة هي حروفك، ومبجّلة هي عباراتك الشعريّة ذات الجرس الرقيق.
شربل.. تأخّرت عنّي، تأخّرت في إطلالتك، تأخّرت في إرسال قوافل حروفك. تأخّرت حتّى في غيابك عنّي، وعندما ينقطع عنّي صوتك فكأن القارة الأستراليّة كلّها قد انفصمت عن هذا الكون.
أصبت بدهشة صارخة، وأنا أتصفّح ديوانك. اعتقدت جازماً أنني أنا الذي خطّطت هذه التخطيطات في ديوانك، وأخيراً وجدت إنها لجورج حدّاد. آمنت الآن بالتقمّص الذي تنبجس ينابيعه من أصابع الفنّان، جورج حدّاد هو حتماً شقيق روحي، ربيب نفسي، وإلاّ من يستطيع أن يميّز تخطيطاتي من عروق خطوطه".
كم كنت أودّ، لولا ضيق المجال، أن أنشر جميع رسائل الأب الدكتور يوسف السعيد إلى شربل بعيني، كونها تختلف اختلافاً جذرياً عن باقي الرسائل التي وصلته. فالروحانيّة الدينيّة تعطّر كل حرف من حروفها، وبخور شاعريّته يتضوّع على صفحاتها بإباء زائد، ليعطيها رائحة اغترابيّة نادرة، ستبقى وحيدة في عالـم الكلمة.
**