الأم الرئيسة والأخت المشيرة.. والنعمة الإلهيّة

الأخت الدكتورة إرنستين خوري، كانت، رحمها اللـه، من أشهر وأتقى مشيراتراهبات العائلة المقدّسة المارونيّات في لبنان. لها ديوان شعري، اسمه مختارات من شعر الأخت إرنستين خوري، جمعته وطبعته، بمساعدة شربل، الأخت كونستانس باشا، يوم كانت رئيسة معهد سيّدة لبنان في هاريس بارك، وأهدتها نسخاً منه في أوّل زيارة لها لأستراليا عام 1985، وقد اعتبرت إرنستين هذه الهديّة أهمّ وأجمل هديّة تسلّمتها في حياتها، كيف لا، ولـم تكن تدري أن الأخت كونستانس تحتفظ، رغم الغربة والبعد، بالعديد من قصائدها، وأنها ستطلقها للنور، وستعيدها، كمفاجأة، للنبع الذي فجّرها، وللعقل الذي أبدعها.
والأخت إرنستين، كما هو معروف، درّست الأدب العربي نثراً وشعراً في الجامعة اللبنانيّة، وتتلمذ على يديها العديد من أدباء وشعراء وصحفيي لبنان المشهود لهم. كما أنها أغنت ديرها بأجمل القصائد والأناشيد الدينيّة والمدرسيّة. إنّها، وباختصار شديد، شاعرة كبيرة، ودكتورة قديرة، وراهبة مشيرة. ولهذا أردت أن أنفض غبار الأيّام عن بعض رسائلها لشربل بعيني، نظراً لما كانت تتمتع به من مكانة أدبيّة ودينيّة في عالمنا الفاني هذا.
وفي زيارتها الثانية لأستراليا عام 1986، أهداها شربل الطبعة الأولى من ديوانه كيف أينعت السنابل؟، فأهدته هذا التقييم الصادق الرائع للديوان:
"السنابل اليانعة تعرف أن تعطي الثـمر، ولكنّها لا تعي كيف نمت، ولا كيف أينعت.
وهكذا شربل بعيني، شاعر الغربة الطويلة وصاحب الدواوين العديدة. ينظم الشعر كما يغرّد العصفور، وتشعّ الشمس بالنور، وتخرّ المياه المنسابة بين الخمائل.
هو رائد من روّاد الشعر الحديث. لا يتقيّد بالأوزان التقليديّة، ولا بوحدة القوافي. يعتمد في النظم على حسّه المرهف، وأذنه الموسيقيّة، وخياله المبدع.
شعره سلسلة إيقاعات تتنوّع بتنوّع الإنفعال، وصوره طريفة خلاّبة تصوّر الواقع، وتسمو به بواسطة الخيال المبدع، ولغته بسيطة واضحة أقرب إلى العاميّة منها إلى الفصحى. تخشن لتستوعب النقمة والثورة، وتلين لتعبّر عن لواعج الألـم والحنين.
واعتماده اللهجة المحكيّة في الكتابة مردّه البعد عن الوطن الأم، وتوخّيه جعل الشعر في متناول الجماهير منهل الوحي وسرّ الخلود.
في القصيدة الواحدة نقع على مقاطع كأنّها سرد حديث صحفي، ولا نلبث أن ننتقل إلى البديع الرائع فكراً وأسلوباً، إيقاعاً وتصويراً. وفوق هذا كلّه تسيطر صورة الفنّان البارع الذي يمس الكلمات العاديّة بأنامله السحريّة فتستحيل أوتاراً وألحاناً.
فإلى الأمام، شاعرنا الموهوب، إلى بناء مدرسة جديدة تعرف باسمك، وينتمي إليها الكثيرون من هواة الشعر الحديث الذين ما زالوا تائهين. إلى التحرّر من قيود الأوزان التقليديّة ولكن لا إلى الفوضى. إلى التزام الإيقاع المتغيّر مع الإنفعال . إلى تخيّر الألفاظ وسلامة التركيب. إلى الجماليّة في الشعر التي لا تتوقّف على الموضوع بل على براعة التصوير.
إلى هذا المستوى أنت مدعو لتكون رائد الشعر الحديث في ديار الإغتراب. وتمثّل بالشاعر والكاتب الفرنسي الشهير "فلوبير" الذي كان يعتني بالجملة كأنّها بيت شعر، وببيت الشعر كأنّه قصيدة. وتذكّر أن الشهرة لا تتوقّف على كميّة الإنتاج، بل على نوعيّته وجودته".
تقييم صادق، ذكّرني بتقييم رائع أيضاً لديوان كيف أينعت السنابل؟، نشره الصحفي المهجري المعروف ميشال حديّد، بتاريخ 30 تموز 1985، في جريدة صدى لبنان العدد 455، ومنه أختار:
"تمينة وحبيبها ليسا إلاّ شخصاً واحداً هو شربل بعيني نفسه، وكم يشبه الشاعر في قصيدة "كيف أينعت السنابل" جبران خليل جبران في عملية استنطاق أبطاله، فقد يتعدد الاشخاص، من حيث الكم والعدد، ولكنهم ينطقون جميعاً بصوت واحد هو صوت الشاعر أو الكاتب، حتّى قيل أن جبران هو البطل الحقيقي لقصصه".
ولأن الكلام الصادق لا يضيع عند شربل، فقد نشر تقييمها هذا على غلاف الطبعة الثانية من ديوان كيف أينعت السنابل؟. وما أن وصلت نسخة منه إلى الأخت إرنستين، حتى امتشقت القلـم وردة وكتبت بتاريخ 28/6/1987:
"بكل سرور استلمت كتابك الرائع "السنابل اليانعة"، وكانت دهشتي كبيرة عندما قرأت على الغلاف مقتطفات من تقييمي لشعرك الحرّ الحديث، مرآة نفسك الشفّافة التوّاقة لتحطيم القيود، وارتياد القمم من كل القيم في عوالـم الحق والخير والجمال.
ما زلت أذكر الأيام التي قضيتها بينكم في أستراليا. كل ما حولي كان جميلاً، ولكنّ نفسي كانت غارقة في بحر الأحزان، وقد وجدت تعزية كبرى بما أبديتموه لي من الألطاف والاهتمام.
أنا اليوم، بالرغم من الفراغ الكبير الذي يملأ نفسي، أواصل تعليم الأدب نثراً وشعراً في الجامعة اللبنانية. والتعليم، صدّقني يا شربل، ساعدني كثيراً في التغلّب على الحزن المميت. إنه عطاء الروح فيه ننسى ذواتنا وعالمنا المظلم، ونطلّ على آفاق جديدة في دنيا الآمال والأحلام. أنت أستاذ، ولا شك أنك اختبرت ما أقول.
أملنا كبير أننا بعد ليالي الحروب الطويلة التي عانيناها، سيشرق علينا فجر السلام والحريّة، فنعود نجتمع وإيّاكم في لبناننا العزيز، لبنان جديد مبني على دعائـم المحبّة والإخاء والحق والعدالة".
وكشاعرة قديرة، راحت الأخت إرنستين تصف ويلات الحرب اللبنانيّة لشربل، في رسالة أرسلتها له بتاريخ 21/2/1989، وتعلن بيأس شديد أن الأخ يقاتل أخاه، والإبن يحارب أباه في لبنان، وأن المراهنين على تفريقنا قد ربحوا الرهان. فبعد أن سمعناها تبّشر شاعرنا، في رسالة سابقة، أن لبنان سيعود، نجد أن كل أحلامها تبخّرت في هذه الرسالة:
"وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر..
وقبل رجوع الأخوات إلى أستراليا بثلاثة أيّام وصلني كتابك، ولمّا نزل نرتجف هلعاً، وندمع أسى لِما سمعناه من دويّ المدافع وانفجار القنابل، ولِما رأيناه من دمار وخسائر في الأرواح والممتلكات شملت العديد من مدارسنا. فرُحنا نسأل ونتفقّد متخوّفين من الأعظم. هذا والقسم الكبير من اللواتي ذهبن إلى الرياضة بقين محبوسات في دير الأم في عبرين، بسبب إغلاق المعابر والتعرّض للأخطار.
هذه هي الحال في لبنان (يا قطعة سما)، حوّلناه إلى لبنان (يا صورة جحيم)، يا بحر العواصف والظلمات، وملتقى القراصنة والطغاة.
ملاّحون نحن تائهون. باسم اللـه نتقاتل ونتخاصم، وباسم الوطن نتعادى ونتقاسم. نفتّش عن اللـه ، ونحوّل وجهنا عن الإنسان أخينا، إبن اللـه، وصورته، وعمل يديه!. نطالب بالعدالة والإنصاف ونغتصب أموال غيرنا. ننادي بالحريّة ونبيع الإستقلال والكرامة بحفنة من المال، أو بمنصب في المستقبل!
آه يا شربل متى تزول الغشاوة عن أعيننا، فنعرف الحقيقة والحقيقة تحرّرنا.
النار تأكل نفسها إن لـم تجد ما تأكله، وفرّق تسد.. لقد ربح المراهنون على تفريقنا، فقد أصبح الأخ يقاتل أخاه، والإبن يحارب أباه. هذا ما جرى ويجري اليوم، فمتى يتراءى المخلّص ليزدجر الرياح، ويقول للبحر: اسكن، اصمت. فيعود الصفاء وينشر السلام. وتعود يا شربل إلى الوطن الذي تركت، لنغنّي معاً نشيد المحبّة في مهد المحبّة".
وبعد كل هذا اليأس المسيطر الطاغي، نجد أن الأخت إرنستين عادت إلى التمسّك بإيمانها، وبثقتها بأبناء شعبها، وبأن لبنان أقوى من الموت، طالما أن هناك شعراء كشربل، صرختهم صرخة شعبهم، وثورتهم شلاّل أمل، فلنسمعها تصرخ:
"لا لن نيأس، ولن نستسلم لأنبياء الشؤم. سنقاوم حتّى النهاية دعاة الشرّ والتقسيم والتباغض. قدرنا بيدنا، ولو دفعنا الثـمن بالأموال والأرواح. سلاحنا إيماننا باللـه وبالوطن. باللـه أب لجميع البشر، وبلبنان وطن للإنسان كلّ إنسان.
سندافع عن مبدإنا وعقيدتنا بأسيافنا وأقلامنا، مقيمين كنّا أم مغتربين، وشعرك يا شربل يرى فيه القارىء صرخة حقّ، ورجع حنين، وإشراقة أمل.
بثورتك على الظلم تثور على الشرّ وتنتصر للخير، وبتوقك للحقّ والجمال تفتّش عن اللـه، ولن تجده إلاّ في سماء نفسك، وقد تنقّت بنار المحبّة لتذوب شفقة على صالبيها، فتهتف مع المسيح: اغفر لهم يا أبتاه لأنهم لا يعلمون ما يصنعون.
فلننسَ الإساءة، ولننادِ بالصفح وبالتسامح، فلا بدّ لليل أن ينجلي، وللصبح أن ينبلج، وتعود من جديد تسطع فوق أرض لبنان شمس المحبّة والحريّة. وتعود يا شربل إلى الوطن الأم ترنّـم بالعود والكنّارة أناشيد المجد والإنتصار".
وبما أن الكلام صادر عن راهبة مشيرة، وصلت إلى أعلى رتبة، بعد الرئيسة، في رهبنتها، وجب عليّ أن ألفتكم إلى عبارات ثائرة وصادقة، وردت في رسالتها، تحارب بها التقسيم، وأنبياءه الدجّالين، دعاة الشر والتباغض، وتؤكّد إيمانها باللـه وبالوطن، شرط أن يكون اللـه أباً لجميع البشر، وأن يصبح الوطن وطناً لكل أبنائه. فهل من إيمان أقوى من هذا الإيمان؟. وهل من وطنيّة أسمى من هذه الوطنيّة؟.
ومع الأخت كونستانس باشا، أرسلت هذه الرسالة بتاريخ 25/1/1991، لتخبره بها عن القصيدة التي ألقتها ترحيباً بالسيد البطريرك نصراللـه بطرس صفير، لدى زيارته التاريخيّة لدير العائلة في عبرين، وتطلب منه قراءتها بتمعّن، وتذكّرها وهو يقرأ، وهذا ما يؤكّد على أن الكلفة بين الأخت المشيرة وأخيها الشاعر قد تبدَّدت كليّاً، كأسراب الضباب، أو كأمواج السراب:
"هي فرصة سعيدة أغتنمها لأكتب لك مع الأخت الحبيبة كونستانس، وقد طمأنتني إلى أحوالك، وبلّغتني سلامك، ونقلت لي ما يفرح القلب عن مدى إخلاصك، وتعدّد نشاطاتك، وتألّق شاعريّتك، وازدياد شعبيّتك. فإلى الأمام يا إبن لبنان البار، نحن بحاجة إلى أمثالك، إلى المجاهدين في سبيل الحقّ والوطن. وأنا كما عرفتني لا أزال على يقيني أن الآلام الكبيرة تصنع الرجال العظام. وأنت أنت، كما عرفتك، من معدن الذهب الإبريز المصفّى في بوتقة المحن. فاللـه معك، والمجد بانتظارك، وإن للحق لا للقوة الغلبة.
أنا ما زلت أعلّم في الجامعة، وهذه السنة كانت متعبة جداً. عشنا تحت القذائف في الملاجىء، نعدّ الأيام والشهور. والآن نعمل لإنهاء برامج السنة الماضية، لنبدأ السنة الجديدة في أوائل آذار، إذا لـم نباغت بما لـم يكن بالحسبان!. وما أدرانا ما تخبّئه لنا حرب الخليج من تطوّرات وانعكسات!.
لقد أرسلت لك مع الأخت كونستانس نسخة عن آخر قصيدة نظمتها في 15 آب، عيد السيّدة، بمناسبة زيارة السيد البطريرك لدير العائلة في عبرين، بصحبة وفد من الأساقفة، وذلك لتقبّل نذور الراهبات. وهذه أوّل مرّة يحضر نذورنا، من أيام العزّ الذي عرفته الجمعيّة في عهد القديس البطرك الحويّك. وكانت مناسبة لنا للتعبير عن الآمال التي كنّا وما نزال نعقدها على بكركي والبطركيّة حاملة مجد لبنان، والقلب ملآن من الآلام والأحزان والمخاوف، ففاضت القريحة ونظمت ما نظمت، وما من أحد من البعيدين أو القريبين إلاّ وطلب الحصول على هذه القصيدة. وكما قالت حضرة الأم العامّة: وزّعنا قصيدتك كما نوزّع كتاب مار أنطونيوس. فاقرأها واذكرني.. وتجد أيضاً بعض أناشيد على ألحان فيروز، نظمناها خاصّة في هذه المناسبة. وأخبرك أيضاً أنني قضيت الصيفيّة في عبرين أدرّس الراهبات الفلسفة، وهنّ الدارسات اللواتي هربن من مختلف المدارس، هربن مثلي من جحيم المعركة، بعد أن تحمّلن الكثير الكثير، واستولى عليّ وعليهنّ الرعب. والحمد للـه تقدّمن إلى الإمتحانات الرسميّة في آخر هذه السنة، أي في كانون الأول، ونجحن كلّهن بدرجة جيّدة. فمن الشعر، إلى الفلسفة، إلى الأدب المقارن، اليوم عدت أعلّمه بالجامعة، أعانني اللـه وإيّاك على القيام باستمرار في هذه الرسالة المقدّسة".
ما أن مرّت أمام عينيّ عبارتها الأخيرة: "أعانني اللـه وإيّاك على القيام باستمرار في هذه الرسالة المقدّسة"، حتّى تذكرت رسالة معلّقة على حائط مكتبة شربل بعيني، وصلته عام 1989 من رئيسة المدارس الكاثوليكيّة في نيو ساوث ويلز يومذاك، المرحومة آن كلارك. وبما أن الرسالة تفسّر نفسها بنفسها، سوف لن أبسّط معانيها التاريخيّة، بل سأنشر ترجمتها لتدركوا كم من الخدمات التربويّة قدّمها شربل لأجيالنا الإغترابيّة دون أن يدري بها أحد. والرسالة تقول:
"عزيزي شربل بعيني
أكتب إليك هذه الرسالة، لأعبّر عن امتناني للوقت وللتعب اللذين بذلتهما من أجل ترجمة كتيّبنا الخاص الذي يشرح كيفيّة التعليم في الصفوف الإبتدائية، والذي سنرسله للآلاف من أولياء أمور طلاّبنا.
لقد كان امتحاناً صعباً لك، لأننا لـم نعطك الوقت الكافي، ومع ذلك قمت بعمل تطوّعيّ رائع تشكر عليه، وفي نفس الوقت سيخبر الأجيال، وبصوت عالٍ، مدى اهتمامك بتربيّة وتعليم الناشئة من أجيالنا.
أنت تعلم، ولا شك، أنك قدّمت لعائلات أطفالنا خدمة، لن يمحوها الزمن".
في كل رسائلها، كانت الأخت إرنستين خوري تدعو شاعرنا للعودة إلى الوطن، تماماً كدعوات الدكتور عصام حدّاد المتتالية له، حتّى تمكّن منه، وأقنعه بالعودة، وكأنها تعتبره، كما اعتبره الدكتور علي بزّي في حديث إذاعي أجرته معه السيّدة ماري ميسي عام 1993، وبثّه أثير إذاعة أس بي أس الحكوميّة، شاعر الوطن في الغربة:
"نحن نعتبر شربل بعيني شاعر الوطن في الغربة، مثلما كان شاعر الغربة في الوطن. حنينه دائم لوطنه لبنان، لمجدليّا، للأرز، لكل شيء هناك. شربل إنسان بشعره، الذي يعالج كل المواضيع الإنسانيّة والحياتية والإجتماعيّة".
لقد لفتني شيء هام في رسائل الأخت إرنستين خوري، ألا وهو تسجيلها التاريخي لوقائع حدثت معها، أو مرّت بها، فمن زيارتها إلى أستراليا، إلى التعبير عن حزنها بسبب وفاة أخيها، إلى وصف ويلات الحرب اللبنانية، إلى زيارة البطريرك الماروني لدير العائلة في عبرين. إلى.. إلى..
دير عبرين، الرابض في منطقة البترون الشماليّة، من منّا لـم يسـمع به، وقد أعطى العالـم أجمع، منذ تأسيسه على يد البطريرك الحويك، أجمل زهرات المجتمع والدين، عنيت بهنّ راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات.
هذا الدير، الذي ترهّبت به الأخت إرنستين خوري، ترأسه اليوم الأم الدكتورة فيرونا زيادة. وقد وقعت بين يديّ رسالة منها لشربل، خلتها في بادىء الأمر للأخت إرنستين، ولكن ما أن رأيت الإمضاء حتى أدركت الحقيقة، وقرّرت أن لا أفصل بين الأم الرئيسة فيرونا والأخت المشيرة إرنستين، ولو فصل بينهما الموت، وأن أنشر رسالة الأم بين رسائل الأخت.
والأم فيرونا، زارت أستراليا عدّة مرّات. وفي زيارتها الأولى كمشيرة عام 1987، إذ أنها لـم تكن قد انتخبت رئيسة عامة بعد، وصلت من مطار سيدني إلى قاعة كنيسة سيّدة لبنان لحضور مسرحيّة فصول من الحرب اللبنانيّة، التي ألّفها وأخرجها شربل بعيني، فأعجبت بها أشد الإعجاب، والتفتت إلى الأخت كونستانس باشا، وقالت لها هذه العبارة المعبّرة والمؤلمة في آن واحد: "أنتم تمثّلون فصولاً من الحرب اللبنانيّة ونحن نعيشها".
وبعد رجوعها إلى الوطن، أرسلت بتاريخ 25 تموز 1988، هذه الرسالة لشربل:
"من الوجوه الكريمة التي يصعب على المرء، بعد التعرّف إليها عن قرب، أن ينساها، هو وجهك المشرق البشوش المنفتح أيّها العزيز شربل.
كيف حالك؟ وكيف حال الأهل؟ عساك في الصحّة التامّة التي أرغبها لك من صميم الفؤاد.
إني أذكرك دوماً في صلواتي، وخصوصاً في هذه الأيام، أيّام تمّوز الحارة عندنا والباردة عندكم، ولا أنسى الأوقات الحلوة التي قضيتها معكم في سيدني العام الماضي. عسانا نعود فنلتقي هنا في الوطن الأم في لبنان.
كيف أحوال المدرسة، والتلاميذ، واللغة العربيّة، والشعر؟.. والشاعر ماذا أنتج هذه السنة؟ لقد قرأت ديوانك بتمهّل وتمعّن، واكتشفت أكثر فأكثر شفافيّة نفسك العذبة، التي لا تعرف للعطاء حدوداً. وفقّك اللـه، يا شربل، في كل مشاريعك، وأهداك إلى رفيقة العمر التي تقدّر من أنت، وتكتشفك على حقيقتك، واللـه سميع مجيب.
نحن هنا في لبنان، ما زلنا نقوم بالنشاطات الثقافيّة، ونهتم بالتربية والمستوى رغم كل شيء. إنما أصبحت الحالة الاقتصادية، ويا للأسف، همّ اللبنانيين الوحيد وشغلهم الشاغل. فموضوع أحاديثنا وسهراتنا والنشرات الإخباريّة عندنا، هو الغلاء الفاحش، وصعوبة العيش، والتقنين، والتلوّث، واللحوم الفاسدة، والمواد الكيميائيّة المستوردة السامة، أضف إلى ذلك اليوم، حديث الاستحقاق الدستوري لرئاسة الجمهورية وعدد المرشحين.
لقد سئمنا كل هذا، واشتقنا إلى المجانيّة، والقيم، والشعر، والاستعداد الدائم للعطاء دون أي حساب.. وكل هذه قد لمستها فيك، أثناء ترددي عليكم في سيدني، يا شربل. إنك حقّاً نعمة من اللـه أعطيت لمدرسة سيدة لبنان في سيدني! بارك اللـه فيك، وحقّق كل مرغوبات قلبك.
إني أذكر دوماً ضحكتك الرنّانة المعبّرة عن صفاء ذهنك وروحك المرحة، ولا أنسى نزهاتنا مع الأخت كونستانس العزيزة. كانت فعلاً أيام حلوة.
عذراً على تأخّري في الكتابة، وأرجو أن أكون اليوم قد عوّضت. أعود فأكرّر، بأني لا أنساك أبداً في صلواتي. حفظك اللـه من كل مكروه، وأعطاك ما تريد، وما تصبو إليه".
أطال اللـه بعمرك أيتها الأم الرئيسة فيرونا، فرسالتك اختصرت كلّ الرسائل.. وقداستك ظهرت في كل حرف من حروفها.. ومَن غير الأم الحنون تعترف بعطاء الأبناء، وتعلن دون خوف، إن شربل بعيني نعمة من اللـه أعطيت لمدرسة سيّدة لبنان، التي ترأسها وتديرها وترعاها اليوم الأخت إيرين بو غصن. وقد لا أكون مغالياً إذا قلت: إن ما مدرسة في أستراليا تدرّس اللغة العربيّة إلا ودخلتها كتب شربل بعيني المدرسيّة، وشملتها النعمة أيضاً.
لقد جمعت العائلة المقدّسة بين الأم والأخت من نواحٍ عدّة، منها القداسة، والتواضع، والأخلاق الساميّة، والعلم، والثقافة الجامعة المضيئة التي تظهر في كل حرف من حروفهما.
وفي رسالة، بدون تاريخ، طلبت الأخت إرنستين من شربل أن يستمر في محاربة الظلم بسلاح الكلمة، فهي سيف ذو حدّين، يُحطّم ولا يتحطَّم. لأن لا شيء يعيد لبنان، ويعيد الشرفاء إليه، سوى الكلمة الثائرة الصادقة. فلنقرأ بعض ما كتبت:
"استلمت كتبك الشعريّة الغالية الرائعة، وقرأت على صفحاتها الأولى مشاعرك الصادقة نحو أخت تبادلك التقدير والاحترام والإعجاب، وتعاني ما عانيته بدورك على أرض الوطن وفي ديار الغربة.
إننا ما زلنا نعيش في مهبّ الرياح العاتية، التي تطلع علينا كل يوم من الداخل ومن الخارج. نصارع قوى الشرّ الرهيبة، آملين بالنصر، مؤمنين بأن للحق لا للقوّة الغلبة.
ولكن متى؟ وكيف؟ أللـه أعلم... وهو أبداً سيد التاريخ!... ونحن نردّد مع صاحب المزامير: يقوم اللـه يقوم ويتبدّد أعداؤه. هذا هو إيماننا، وهذا هو رجاؤنا، وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.
سيعود لبنان يا شربل، وسيعود إليه المهاجرون المخلصون أمثالك، ليساهموا في انبعاث الحريّة والعدالة.
استمر على ما أنت عليه من محاربة الظلم بسلاح الكلمة، فهي سيفٌ ذو حدّين، يحطّم ولا يتحطّم.. عسى أن تتحقّق الأحلام ونلتقي قريباً، ونحن متلاقون دوماً في الأهداف والمشاعر والآمال.
أرجو لك موسماً حافلاً بالإنتاج الشعري الثـمين، واسأل اللـه أن يباركك، ويحفظك بعافيته الإلهيّة، فتهون المصاعب، وتتحقّق الأماني.
لك شكر خاص على نشرك قصيدتي في استقبال غبطة البطريرك في عبرين، على صفحات صحف أستراليا. هذا من زيادة حبّك ولطفك".
الأخت إرنستين تتمنّى لصديقها موسماً حافلاً بالإنتاج الشعري الثـمين، وبمراجعة بسيطة لبعض ما قيل بأدب شربل في المهجر، نجد أنه لـم يخيّب أملها على الإطلاق. فها هو الشاعر فؤاد نعمان الخوري يخبرنا في مقال نشره بجريدة التلغراف، العدد 1999، الصادر في 27 تشرين الثاني 1989، أن الشاعر شربل بعيني يتسلّق جبل النضارة:
"ينحو الشاعر شربل بعيني في ديوانه الجديد معزوفة حب منحى متطوّراً، في سياق مسيرته الشعريّة الممتدة على مدى عشرين سنة ونيّف. ولئن كان الإستاذ جوزاف بو ملحم اعتبر في مقدّمته (أن الشعر دار دورته الأولى)، إلاّ أن شربل، برأيي، قد تجاوز نفسه في هذا الكتاب، من حيث اللعبة الفنيّة والومضة الشعريّة، بحيث أراه يتسلّق جبل النضارة، مشملاً، مختصراً، معمّقاً تجربته، دقيقاً في اختيار ألفاظه".
كما أن الدكتور جميل الدويهي يخبرنا في مقال نشره بجريدة صوت المغترب، العدد 1056، الصادر في 23 تشرين الثاني 1989، أن شربل بعيني هو الوعد بالبقاء:
"شربل بعيني الذي أحب ومات وقام وانسحب على المرارة دهراً لا ينتهي.. هو الوعد بالبقاء والإشارة الرافضة لكل الدساتير الملعونة والمتمرّدة على سلالة الأسود العنسي.
شربل بعيني لحظة الوصول حين يقف جلجامش خائفاً من المغامرة.
إنه الإنفلات من دائرة القهر حين يكثر المستزلمون والزاحفون إلى مائدة بيلاطس..
وأن يثور شربل على الظلامية والإرهاب ويطبع كتاباً، تحدٍ وإعلان للقيامة واقتحام جديد للمستقبل.
أن يمرّ شربل بعيني في موّال الكتابة دعوة إلى البقاء حين يريد أحفاد هولاكو أن ينسفوا جسور الحريّة، ويلغموا الشمس بالحقد الأسود.
مبارك الآتي باسم شربل بعيني.. ومباركة ثـمرة شربل بعيني معزوفة حب ومبارك الشعر".
وبكلمات شعرية جميلة يخبرنا الأستاذ أنور حرب، في مقال نشرته جريدة التلغراف، العدد 2674، الصادر في 20 حزيران 1994، أن شربل بعيني شاعر طليعيّ:
"الكلمة الأخيرة لخّصت البعيني: شربل شاعر طليعي، ثوري، ملتزم، توّاق إلى الجديد. شعره نبض يحمل المستقبل، إنه، كما تقول الأديبة طبّاع، عازف ماهر أجاد العزف على أوتار الحياة، فغنّاها بصدق وجرأة".
أما الأستاذ كامل المر فيخبرنا في مقال نشره في جريدة صدى لبنان، العدد 589، الصادر في 29/3/1988، أن خيال شربل بعيني يجعل من المناسبة التي يشارك بها مناسبة وطنيّة:
"أما ما اتفق على تسميته بأدب أو شعر مناسبات، فهو مجرّد ألفاظ بغير روح، مجرّد مدح أو هجاء أو تزلّف أو حقد، ما أن يخرج من فـم الأديب أو الشاعر حتى يتلاشى مع موجات الأثير.
قدوم فيروز إلى أستراليا كان مناسبة معيّنة، لكن خيال الشاعر شربل بعيني جعل منها مناسبة وطنيّة للدعوة إلى وحدة لبنان الممزّق المشلّع، وأدرك أنه لـم يبق من وحدة هذا البلد سوى فيروز، فقال رائعته: فيروز كوني أمّنا.
وتأتي باسكال صقر.. وهذه مناسبة محدّدة أيضاً، لكن خيال الشاعر شربل بعيني جعل منها "وطناً واقفاً على المسرح". وأظنّ أن هذه العبارة ستذهب مضرب مثل يقال لكل فنّان أو فنّانة يعكسان آلام الوطن وعذابه، إن بالصوت أو بالقول، وقد اصطاد الأستاذ جوزاف بو ملحم بحسّه الصحفي المرهف هذا البيت وجعله عنوان تغطية تلك الأمسية.
تباركت مثل هذه المناسبات التي تعطينا مثل هذا الأدب، وليخرس النابحون الذين يتلطّون وراء عبارات "شعر المناسبات".
وأخيراً يخبرنا الأستاذ جوزيف خوري في مقال نشره في جريدة البيرق، العدد 828، الصادر في 7/7/1994، أن شربل بعيني يؤكّد أن سلطان الحبّ أكبر قوّة على الأرض:
"شربل بعيني الذي لا تهمّه الحواجز والصعوبات يؤكّد بأن سلطان الحبّ أكبر قوة في الأرض، لا يستطيع أحد أن يقف قصاده، وهو الدين الحقيقي الذي يوحّد الشعوب، ويجمع ما بين القلوب".
لست أدري ماذا تعني عودة شربل إلى لبنان للأخت الدكتورة إرنستين؟.. هل هي "عودة غودو" الجديدة؟ أم عودة السلام إلى الربوع اللبنانيّة؟.. فإنّها في كل رسائلها كانت تمنِّن النفس بتلك العودة، وتبشّره بأن شمس المحبّة والحريّة ستسطع من جديد فوق أرض لبنان، وتعود يا شربل إلى الوطن الأم ترنّـم بالعود والكنّارة أناشيد المجد والإنتصار. وحتى لا يتعجّب شربل من كثرة أحلامها بعودته، تخبره أن لبنان بحاجة إلى أمثاله، إلى المجاهدين في سبيل الحقّ والوطن.
وعلى بطاقة ميلاديّة بدون تاريخ، كتبت الأخت الدكتورة هذه الأسطر القليلة لشربل، الكبيرة بمعانيها، العميقة بفحواها، وكأنّها الدعاء الأخير لها قبل الرحيل عن هذه الفانية:
"أتمنّى لك أن يظلّ النجاح حليفك، وأن لا تثنيك المعاكسات عن مواصلة الجهاد حتّى تتجسّد الكلمات في موطن الكلمة نوراً يبدّد الظلام، وناراً تحرق ما تراكم من آثام".
وعندما توفّاها اللـه، بكاها شربل بدموع حمراء، كما يبكي الأخ أخته، وكما يبكي الشاعر أفول حلم عايشه لسنوات طويلة، ورثاها بقصيدة حزينة سأنشرها كاملة، تخليداً لذكراها العطرة:
ـ1ـ
غَيْم الْبِكِي.. لَبَّدْ سَمَا عِبْرِينْ
وْمَا عَادْ لاقَى الدَّيْر شَمْسِيِّه
هَبِّتْ صَلاَ عَ شْفَافْ قِدِّيسِينْ
تْرَهّبُوا.. نَكْرُوا الأَنَانِيِّه
وْصَوْت يِنْدَه: خَبّرُوا حَرْدِينْ
خِسْر الْوَطَنْ أَرْزِه سَمَاوِيِّه
خِسْر الْقَدَاسِه الْـ حِمْيِت مْسَاكِينْ
بْطَلْبَاتْ عَمْ بِتْرَدِّدَا شْبِيِّه
عِرْفِتْ يَسُوع وْخَطِبْتُو مْنِ سْنِينْ
وْقَدّمِتْلُو قَلِبْهَا هْدِيِّه
الْجُمْعَه الْعَظِيمِه قَرّبِتْ.. تِخْمِينْ
حَبِّتْ بَدَالُو تِنِصْلِبْ هِيِّي
مِينْ مَا بْيِزْعَلْ عَ إِرْنِسْتِينْ
عَ الرَّاهْبِه الْقدْوِه الشِّمَالِيِّه
عَ الشَّاعْرَه اللِّي زَرْعِت بْسَاتِينْ
بِبْيُوتْ مَهْجُورَه وْمِنْسِيِّه
خَيَّاتْهَا الْـ بِالدَّيْر مَنْدُورِينْ
سِمْعُوا كْلامَا قَبِلْ مَا تِرْتَاحْ
وِتْرَجِّع الْوَزْنِه الإِلَهِيِّه
ـ2ـ
فِرْحِت الْجَنِّه.. بْطَلِّة الإِيمَانْ
بْطَلِّة الْكِلْمِه الْوَاقْفِه عَ مْطَلّْ
بْطَلِّةْ قَصِيدِه وَعِّت الإِنْسَانْ
وْخَلِّت الْكُفْر بْعَتِمْتُو يِنْشَلّْ
مَشْلَحَا الأَبْيَضْ مِنْ تَلِجْ لُبْنَانْ
وْخَاتَم الْخُطْبِه فِضّتُو مْنِ الْفُلّْ
وْتَوْبَا الرّمَادِي اسْوَدّْ مِنْ دُخَّانْ
شَوَّه بْلادَا.. وْمِنْ غَدرْ مِحْتَلّْ
أَشْعَارْهَا الْـ بِتْشَرِّف الأَوْزَانْ
فَتْحِت بْيُوتَا.. تْأَهّلِتْ بِالْكِلّْ
وْصَارِت تْوَزِّعْ لِلْبَشَرْ صُلْبَانْ
وِتْعَلِّمُنْ كِيفْ الْحُزنْ بِيفِلّْ
يَا حُزن "شَرْبِل".. يَا بِكِي قِصْدَانْ
بَعْدِكْ يَا إِرْنِسْتِينْ رَحْ مِنْضِيعْ
وْمَا فِي فَرَح عَ بْوَابْنَا بِيطِلّْ!!
رحمك اللـه يا ابنة بلدة حردين، المقدّسة بأبنائها، الشامخة بوطنيتها، والتي أنارت العالـم بقنديلين مقدّسين لا ينضب زيتهما: الطوباوي نعمة اللـه الحرديني، والأخت الراهبة إرنستين خوري.
**