ستّ رسائل من ستّ دول

البروفسور محمد سليمان أشرف، كان رئيساً لقسم الدراسات العربيّة في جامعة دلهي الهنديّة يوم التقاه شربل بعيني في العراق عام 1987، وسأطلعكم على إحدى رسائله إليه، لأنتقل بعدها إلى عظيم آخر من دولة أخرى. وإليكم ما كتب في 24 تمّوز 1989:
"الأخ الفاضل شاعر الحبّ والجمال..
تحيّة طيّبة وبعد،
فقد تسلّمت رسالتك الكريمة والكتاب لمحمد زهير الباشا شربل بعيني ملاّح يبحث عن اللـه، عندما عدت من الخارج، ولذلك ما استطعت من قبل أن أردّ على رسالتك.
أشكرك على إرسالك هذا الكتاب القيّم، الذي حلّل فيه الأستاذ محمّد زهير شعرك تحليلاً دقيقاً، وما تسلّمت أي كتاب منك من قبل.
وفي الواقع تمتّعت بقراءة المقتبسات من شعرك الرائع. ما أروع ما نظمت عن نفسك:
أنا شاعر الحب
والهوى
والجمال
أعيش للجمال
وأفنى بالجمال..
وما أجمل صورة للعرب عرضتها في ديوانك كيف أينعت السنابل؟.
أين الذين غامروا وقامروا
وساهروا الإفرنج في العلب؟
أين الذين فجّروا اللذات في أقبية المساء
وشربوا الخمور من أحذية النساء
وصدّروا البترول كي يستوردوا البغاء؟
أين الذين هجّروا الأقلام
ثـم أحرقوا الأدب؟
تمزّقت أرضي
ولـم يدرِ بموتاها العرب!!
صورة صادقة. ومَنْ مِنَ العرب يستطيع أن يسمع هذه الكلمات المريرة؟.
وبسبب غيابي عن البلد، ما تمكنت من الإشتراك في مهرجان المربد هذا العام.
وأخيراً لك منّي كل تقدير واحترام".
ومن الهند سأنتقل إلى المملكة المغربيّة، لأطلعكم على إحدى رسائل الأديب المغربي أحمد الطريبق أحمد، الأستاذ المحاضر في كليّة الآداب في جامعة تطوان، والتي أرسلها بتاريخ 12 كانون الأول 1988:
"الأخ الأديب المهجري شربل بعيني
تحيّاتي..
من أعماق شعوري، ومن أعماق هذه الأرض في الجناح الغربي من الخريطة العربيّة، كانت مفاجأة لي سارّة، وأنا أستلم الكتاب الموسوم باسمك النبيل، عن تجربتك الأدبيّة وأشعارك المهجريّة. ولـم يكن يخطر بالبال أن حروفاً عربيّة ستخترق الآفاق والمجاهل لتصل إليّ، وأنا في المغرب، كقطرات الندى، تحمل في ثناياها زخماً من العروبة، آتية من قلب أستراليا، هذه القارة النائية عن العروبة والحرف العربي.
نعم، إن رسالتكم في مهجر أستراليا رسالة خالدة. وكم هو جميل هذا التاريخ العربي الذي يعيد تجربته مع الحرف النضير. ومن زمن قريب سقطت آخر ورقة من الصفصافة العربيّة، والمتبقيّة من حديقة المهجر، ذلكم هو مخائيل نعيمة. ولكن عدوى العروبة ووجدان الحرف سيسريان إلى آخر بقعة من بقاع الأرض، ما دام القرآن وتراث العرب ينبضان في قلب الجسد العربي.
إن الكتاب المرسل إليّ عن تجربتك، سيكون الجسر الروحي الذي سيربطني مع تجربة كل عربي في المهجر هنالك، هنالك في البعيد.
أما عن شخصك المرح، فقد افتقدناك في المربد التاسع، وهو مربد اللقاءات العربيّة على أيّ حال.. فيه من الشعر القليل، وفيه من الفوائد الكثير، وأهمها اللقاء الصادق الذي يربط بين الأدباء من أقصى الأرض إلى أدناها، ولا أدل على ذلك هذه الصداقة التي ربطتني وإياك، في صدفة من صدف الزمان.
وماذا عن المربد التاسع؟.. هو في عمقه ومداه لا يختلف عن المرابد الأخيرة، لكن مناخه العام ينمّ عن شعور وارتياح بجو السلام الذي سيسود المنطقة. وما أفظعها من حرب مدمّرة، كانت، وأملنا ألاّ تعود، وأملنا أن تنقلب الأرض غير الأرض في لبنان، ويعود إلى بناء الأعشاش لطيوره المهاجرة، وأنت من الطيور المهاجرة، يا أخي شربل!! أليس كذلك؟.
فمزيداً من الإتصال الروحي بيننا عبر المراسلات والمطبوعات، وكلّي اشتياق إلى المزيد فالمزيد: صحفاً أو دوريّات من عالـم المهجر، فلها مذاق خاص، ولها طعم لا يمّحى أثره من الوجدان، وسأوافيك مستقبلاً بأشياء من المغرب لتتبيّن عن كثب الحركة الأدبيّة النامية في بلدي".
رسالتا أشرف والطريبق لن أعلّق عليهما، ولن أشرح أبعاد كلماتهما الرائعة، بل سأنتقل إلى العراق لأطلعكم على إحدى رسائل الشاعر السرياني المعروف نزار الديراني، صاحب الدواوين العديدة، والرسالة بدون تاريخ:
" أمامي الآن دواوينك الأربعة، والفرح ينزلق على شفتيّ بسمةً معسّلة، وقد تجرّعت نصف الكأس كدفعة واحدة من العرق والليمون تخليداً لتلك الكأس التي قدّمتها لي في فندق شيراتون يوم التقيتك في المربد، وتجديداً لصداقتنا. كم تمنيّت لو استطاع العرق أن يرفع بعض الفقّاعات على سطح الكأس تعبيراً عن مجده. لا زالت الكلمات تنساب على الورق وابلاً من الخلجات، كالرصاص، وكأسي قد أشرفت على الإنتهاء. ولكن آه من القلم!.. لقد تساءلت مرّات ومرّات: لماذا لا ينساب حبّي على الورق من غير قلم؟.. أتذكر كم مرّة حاولت أن أعبّر لك عن شعوري، ولكن، وللأسف، يبدو أن الرسالة كالقصيدة، لا يأتي مخاضها إلاّ في الوقت المناسب؟.
أخيراً، أرجو أن يحالفني الحظّ للحصول على جميع مؤلفاتك المقبلة، وأعاهدك بأني سأرسل لك نتاجي حال الإنتهاء من الطبع. متمنيّاً لك الصحة والعافيّة".
ومن العراق إلى اليمن، لنقرأ معاً رسالة الإعلامي المعروف عبد الودود المطري، المرسلة بتاريخ 16 آذار 1991:
"شربل بعيني: الشاعر المبدع والصديق العزيز
تحيّة طيّبة وبعد،
أتمنّى أن تصلك رسالتي وأنت في صحّة جيّدة، كما أنا عليه، بعد أن زرت أمريكا وفرنسا. فرنسا لعلاج إبني فهيم، وأميركا بناء على دعوة وجّهت لي من هناك، من قبل وكالة الإعلام الأميركيّة، أنا ومجموعة من الصحفيين اليمنيين. إستمعت إلى الأشرطة التي بعثتها إليّ بواسطة الأخ محمد الشرفي، فشكراً لك. وحقيقة فإن هذه الطفلة (ريما الياس) المؤديّة للأغاني معجزة، وكلمات الأغاني مبدعة، والألحان جميلة جداً.
عزيزي شربل
أرجو أن تكتب لي عن أستراليا. كيف هي؟.. هل هي مثل أمريكا مثلاً؟.. إذا كانت مثل أمريكا، فقد عرفت أمريكا ولا تعجبني، لأنني شرقي صميم، ومتخلّف صميم، ويعجبني تخلّف الشرق وروحانيّته، وأكره المادة.
ضمن هذه الرسالة عددنا الأخير من الراصد، آمل أن يحوز إعجابك. بالمناسبة أنا أفكّر في أن أدرس يا عزيزي شربل، زهقت من العمل لأنه يمتصّني، يقتلني. أنا في الأساس مشروع شاعر فاشل، ولي بعض المحاولات البسيطة، وأكتب القصّة أيضاً. أريد أن أسأل إذا كان بالإمكان أن أدرس الأدب الأسترالي. أقصد إذا كان هناك منح مجّانيّة تقدّمها أي جهة كانت لمثل تلك الدراسات، فاكتب لي.. أود أن آخذ إجازة من الحياة لمدة عامين أو عام. للعلم، النفط أو الوسخ الأسود تدفّق هذا العام في بلادنا.
أحمد الأشول يسلّم عليك، والعزيز محمد الشرفي مسافر حالياً في العراق ضمن وفد رسمي وشعبي وحزبي وسيعود بعد يومين. وحقيقة نحن مشتاقون لرؤيتك في بلادنا، ومحمد الشرفي يود ذلك كثيراً، وإنشاء اللـه سيتم في أقرب فرصة. تعالوا اسكنوا في بيتي.
ملحوظة: السفارة البريطانيّة في صنعاء توزّع استمارات هجرة إلى أستراليا. أنا أريد أن أسبق الجميع، ولكن ليس بفرصة العمل، وإنما الدراسة. لغتي الإنكليزيّة لا بأس بها، يعني 40 بالمئة تقريباً، وأنا خرّيج، أصلاً، إدارة أعمال ـ بكالوريوس من جمهوريّة مصر العربيّة عام 1983، وأنا من مواليد 1958، ولكن قاتل اللـه الشعر والنثر والصحافة والقصّة، حولوا مجرى حياتي 180 درجة، ولـم أكسب سوى الشهرة. دلّني على بنك يصرف ثـمناً للشهرة".
ومن اليمن إلى لبنان، إلى رسائل الشاعر والمربّي اللبناني إيلي مارون خليل، لأنتقي منها هذه الرسالة المرسلة بتاريخ 29 أيّار 1988:
"أخي الحبيب الشاعر شربل بعيني المحترم
سلام عليك وعلى روحك الطيّبة..
لا أزال، وسأبقى، أذكرك صديقاً وأخاً. لقد كان مهرجان المربد الأخير مناسبة جيّدة بالنسبة إليّ، وصدفة عرّفتني بلبنانيّ صميم في دنيا الإغتراب، هو أنت يا شربل. ولقد قرأت مرّة خبراً في مجلّة المنبر، ورأيت صورتك فسررت.
رسالتك إلى سهيل وصلت من زمان. أنا سلّمته إيّاها في المدرسة، فنحن ندرّس في مدرسة واحدة (معهد القديس يوسف ـ عينطورة)، ويقول إنه كتب إليك بعدها مباشرة.
رسالتك إليّ المؤرخة في 11 نيسان 1988، وصلتني في 12 أيار 1988. أغتنم هذه الفرصة مع أقرباء صديق لي لأرسل إليك هذه الرسالة، وأخبرك شيئاً من أخباري.
ستصدر الطبعة الرابعة من كتابي القصصي عنكبوت الذاكرة والزمن في آب القادم، وعن المكتبة الأهليّة. بعدها بحوالي الشهر يصدر كتاب جديد لي عن الدار نفسها أشهد أنني عاشق. وفي مطلع 1989 ستصدر مجموعة قصصيّة جديدة، أكتبها للأطفال بناءً لاتفاق مع دار مكتبة بوليفر، التي أصدرت روايتي زهرة المدى المكسور في نوّار 1986.
وغير ذلك، الصحّة جيّدة. الإنتخابات الرئاسيّة يبدو أنها ستحصل في موعدها. الإتجاه العام، حتى الآن، هدوء.
أتمنى أن تراسلني دائماً، فأنا أسرّ. أطلعني على أخبارك، كتاباتك.. وإلى اللقاء.. ربما في مربد جديد.. من يدري؟! وألف شكر للمقال".
وأخيراً، سأنتقل إلى سوريا لأطلعكم على رسالة العقيد المتقاعد عبد الكريم ونّوس، المؤرّخة في 27 أيلول 1993:
"تحيّة وشوق..
التحيّة:
شكراً لك يا بعيني
وأنا بحطّك بـ عيني
بمناجاتك قلت الحقّ
بأمير المؤمنين
بِمْزاميرك هـ العشرين
فاح العطر والياسمين
قريت الإنجيل بياسين
يا حبّي ويا نور عيني
المالك تفكيرك علي
نِعم المالك والمملوك
الحقيقه ما بتنطلي
ولولا كترت حولا شْكوك
بثالوثك عندي إيمان
وكلمة أللـه بتجمعها
أللـه واحد بالأديان
وهـ الفرقه منَّك معها
أنا مسيحك عندي
متل محمّد قد بقدّ
والذكي بيفهم قصدي
وع كْلامي ما فيه يردّ
وأما الشوق:
إلى كل كلمة صدق وحقيقة وأمل تنبعث من أفواه تعوّدت نطق الصدق، وقول الحقيقة، وبعث الأمل في النفوس التوّاقة إلى الخير والحب والأمان. فشوقي إليك، وسلامي عليك وعلى أمثالك الذين تحرّروا من ربقة التقاليد، وقالوا الحقيقة في المثل الأعلى لكل الأمـم، لأن الكل احتاج إليه ولـم يحتج إلى الكل، ولذلك قيل عنه أنه إمام الكل. فالأعداء تفرّقوا عنه، ولكنهم أجمعوا على علاه، وكل الورى أثنوا عليه وعلى حسنه رغم قِلاه. فهو إمام الأئمة، حبّه إيمان، وبغضه نفاق. أمير المؤمنين، وأمير كل أمير، وما أقلّت الغبراء، ولا أظلّت الخضراء ندّاً له في كل عصر وزمان ومكان.
فحيّاك اللـه أستاذي الكريم على ما نطقت به من الدرر، وكانت مزاميرك العشرون بما حوته من معانٍ سامية، وأفكار نقيّة صافيّة، ومضامين ساطعة البراهين في رحاب أمير المؤمنين".
ستّ رسائل من ستّ دول مختلفة، بيّنت لنا مدى انتشار أدب شربل بعيني، فهو لـم يتقوقع في غربته، بل حلّق في الأرجاء العربيّة والعالميّة، ليخبر اصحاب الشأن الأدبي، من دكاترة ونقّاد وأدباء وشعراء وقرّاء عاديين، أن في أستراليا أدباً عربياً، قيمته بصدقه، بتواضعه، بتفاعله مع الأخرين، وبإنسانيته اللامتناهيّة.
لقد دفع شربل بعيني جنى عمره من أجل نشر أدبه، وإرساله إلى بلدان بعيدة، قد لا يحلـم هو بزيارتها، ومع ذلك وصل إليها عن طريق كلمته الشامخة، ولسان حاله يردّد:
"لقد سخّرت مالي في خدمت حرفي، وجنّدت حرفي في خدمة الإنسانيّة، فساعدني يا ربّ كي أمتلك الحقيقة".
**