تبّاً للغربة.. أم شكراً لها؟

في زاويته الشهيرة (ستوب) التي كانت تنشرها جريدة صدى لبنان، قبل توقّفها عن الصدور، كتب شربل بعيني بتاريخ 30 آب 1988، العدد 611، ما يلي:
"أربعة أشخاص سيفرحون كثيراً لدى قراءتهم هذه الرسالة: جورج يمين، جوزاف بو ملحم، ميشال حديّد، وفؤاد نعمان الخوري. الثلاثة الأوّلون من تلامذتها، والرابع أحد أحبّ الأصدقاء إلى قلبها، أمّا صاحبة الرسالة فهي الأديبة الشماليّة المعروفة سوزان بعيني".
وفي (ستوب) آخر، نشرته صدى لبنان في 16 كانون الثاني 1990، العدد 674، كتب شربل:
"حظّي يفلق الصخر، هذا ما قلته وأنا أتلقّى بطاقة معايدة من الأديبة المجدلاويّة سوزان بعيني، في نفس اليوم الذي تسلّمت به هديّة الفنانة نجوى عاصي (كمشة تراب من مجدليّا).
كلمات سوزان تتألّق دائماً، وتتشاوف الواحدة على الأخرى بدلع مستحبّ".
وفي ديوانه رندح يا وجع، الصادر في سيدني عام 1989، خصّ الشاعر المهجري فؤاد نعمان الخوري صديقته سوزان بعيني بالتفاتة رائعة، حيث نشر فيه القصيدة التي ألقاها في "يوم محمد زهير الباشا" الشهير، الذي أقيم في 30 حزيران عام 1989:
ـ1ـ
زنبق مجدليّا، السنه، حملان
صارت جنينه تخبّر جنينه
شاعر مجدليّا صبي جهلان
غنّو، تا يكبر شربل بعيني:
يا بيّاع العنب والعنبيّه
قولو لأمّي، وقولو لَبيّي
سرقوني الغجر،
من تحت خيمة مجدليّه
ـ2ـ
ومين قال: بيروحو الغجر؟ مين قال؟
.. وشاعر نسي تاريخ ميلادو
لا سهول حفظت دعستو، ولا جبال،
جوّال، مطرح ما الحلم قادو..
رفيقو بهالرحله الطويله، خيال،
والذكريات الغافيّه زادو،
وعا كلّ تلّه يطلع بموّال،
وبسرير بالو ينيّم ولادو:
يا بيّاع العنب والعنبيّه
قولو لأمي، وقولو لبيّي
قتلني الضجر
واللغات الأجنبيّه!
ـ3ـ
كانت تجي سوزان البعيني
تقلاّ عيون الشعر: يا عيني
ترشرش ع (بحويتا) القوافي، نبيد،
من تـمّ جرّه، ما لِها دَيْنِه
من بعيد بلمح صوتها، من بعيد،
واقف حكم، بين المدى وبيني
سوزان! عم ألّف كتاب جديد
وموعود من شعرك بِـ حلويَنِه،
وغنّي معي بهالعيد:
يا بيّاع العنب والعنبيّه
قولوا لأمي، وقولوا لَبيي
مشتاق الشجر
للطيور العسليِّه!
كما خصّها فؤاد بالتفاتة أروع من الأولى، في هذه الرسالة التي أرسلها لشربل بتاريخ 19 نيسان 1988:
"تحيّة لبنانيّة وبعد،
أشكرك على كلمتك اللطيفة في صدى لبنان، وصدانا أيضاً، في عدد الثلاثاء 5 نيسان 1988.
وأشكر صديقنا الأستاذ جوزاف بو ملحم، الذي شرّع لنا قلباً وقلماً وجريدة.
اسم اللـه عليك يا شربل، يا مسبّع .. الصفحات!
لا أكاد أنتهي من معانقة أبياتك في صحيفة، حتّى أسلّم عليك في أخرى.
أيّها النبع الفوّار..
ليس كثيراً عليك أن (تطوف) شعراً، لأنّك ملأت جرارك من (عيون مجدليّا).
ولا أستغرب شفافيّة لديك، فقريبتك (سوزان) تفيض في لبنان رقّة وجمالاً وثقافة، والشعراء يكتبون.
أما مسألة التقليد والتجديد في الشعر، فتلك مسألة محسومة من زمان، لأننا أبناء الحريّة والمستقبل، والتجديد من المسلّمات.
شكراً مرّة ثانية، والسلام عليك".
أما الدكتور عصام حدّاد فقد ذكرها بهذا المقطع من رسالة أرسلها لشربل في 13 تشرين الأول 1990:
"كما أني ذهبت إلى مجدليّا، وتحدّثت طويلاً إلى الأديبة سوزان بعيني، وكنت أنت الوصلة في كلّ حديث، وحين وطأت أرض مجدليا، تصوّرت شربل الطفل، واليافع، والشاب، يعدو في ربوعها، وبين أشجارها، وخلف صباياها، وعلى منابرها".
هذه هي الأديبة اللبنانيّة سوزان بعيني التي سأطلعكم على بعض رسائلها لابن بلدتها مجدليّا. وصدّقوني أن أسلوبها في كتابة الرسائل أقرب ما يكون إلى الشعر، وأجمل ما يكون من نثر. وخير دليل على ذلك هذه الرسالة التي أرسلتها بتاريخ 25 تمّوز 1988.
"شربل، يا صديقي الشاعر..
قد تكون هذه الرسالة العاشرة التي أبعث بها إليك، والوحيدة التي خططت كلماتها على ورقة.
أما الباقيات، فوشوشات ومناجاة، كان عليّ أن أترجمها أحرفاً قبل الآن، إنّما بقيت أضغاث أحلام، وبقيت أنت في الفكر والوجدان.
شكراً على هديّتك الثـمينة، التي أتتني من خلف البحار، ورائحة شربين مجدليّا عالقة بكلّ صفحة من صفحات هذه الدواوين القيّمة.
شربل الصغير، الذي كان يكتب الشعر على عيون مجدليّا، وخلف دير مار الياس، وتحت كينة الكنيسة، وأمام دكّانة خرستين.
شربل المراهق الذي نظم لعينيّ كل فتاة مجدلاويّة، وكلّهن جميلات، شعراً.
شربل الشاعر، الذي زيّن بيوتات مجدليّا بديوانيْ مراهقة و قصائد مبعثرة.
شربل الذي سار هذه الدرب الطويلة بين مجدليّا وسيدني، أصبح اليوم (شاعر المهجر الأول)، يوقظ الضمائر، يستلّ سيف الحقّ، ويشهره بوجه تجّار الوطن، يخطّ تيّاراً جديداً، ويخلق نهضة أدبيّة وفكريّة، ويصبح بذلك (سفيراً فوق العادة). فهو يحمل الوطن للمغتربين، ويحمل أستراليا، بلاد الإغتراب، إلى الوطن الأم لبنان.
كل المواعيد تحقّقت بك يا صديقي، وهنيئاً لمجدليّا يرفع إسم مجدها عالياً إبنها البار شربل سركيس بعيني.
كنت أتمنّى أن أحصل على مؤلّفاتك كلّها، لتكتمل مجموعتي، ويزداد بك فخري واعتزازي. فديوانيْ مراهقة و قصائد مبعثرة احترقا مع ما احترق من مكتبتي ومكتبة والدي القيّمة، يوم أحرق بيتنا في 27 آذار 1976.
ومؤلفاتك في بلاد المهجر لـم يصلني منها سوى: الغربة الطويلة، مجانين، من كل ذقن شعرة، ومن خزانة شربل بعيني. وقد تهافت أهل البيت على قراءتها بدءاً بوالدتي، التي تسألني كل يوم: هل كتبت إلى شربل؟.. هل أهديته سلامي؟.. هل قلت له إنني أصلّي كي أراه في الوطن قبل أن أموت؟.. ومروراً بأولاد أخي الصغار منهم والكبار.
أجمل ما في كتاباتك، أنك تقطف من كل البساتين أجمل الباقات وأحلى الزهور.
تتنقّل ما بين الشعر اللبناني المرهف، والشعر العربي الفصيح، والنثر الساخر، والقصيدة الحديثة، وتبدع في كل نوع تتناوله.
لا أعلم.. هل صدر لك حديثاً شيء جديد؟ أكون لك شاكرة إن زوّدتني به.
شكراً لكلارك بعيني الذي أثبت فعلاً أنه أديب مرهف، إذ جمع لك كل ما قيل عنك، وأتحفنا بكتاب قد يكون فريداً من نوعه. هل صدر رقم ـ2ـ.
أنا مشتاقة إلى أخباركم الأدبيّة والإجتماعيّة، لا تبخلوا بها عليّ. أتمنى لو أحصل دوماً حتى على المقالات التي تنشرها في الصحف هناك.
لا أدري في النهاية، هل أقول: تبّاً للغربة التي سلبتنا الشاعر؟ أم: شكراً للغربة التي بلورت موهبتك الشعريّة، وجعلت منك (شاعر المهجر الأول)؟".
لقد أطلعتنا سوزان، برسالتها هذه، على أشهر الأمكنة المجدلاويّة التي كان يلجأ إليها شربل من أجل كتابة الشعر. فتارة كان يكتب على عيون مجدليا، وتارة أخرى خلف دير مار الياس، وطوراً تحت كينة الكنيسة، وأحياناً كثيرة أمام دكّانة جدّته المرحومة خرستين. والظاهر أن هذه الأمكنة من معالـم القرية، وأنها تعني الكثير لشربل، وإلاّ لما اهتمت بها سوزان، ولما ذكّرته بها.
وأعتقد أن أجمل ما في رسالة سوزان تلك النهاية المعبّرة جدّاً، التي تفيض وعياً وإدراكاً، وتتلاعب بعواطف قارئها كما تتلاعب بالكلمات: "لا أدري في النهاية، هل أقول: تبّاً للغربة التي سلبتنا الشاعر؟ أم: شكراً للغربة التي بلورت موهبتك الشعريّة، وجعلت منك (شاعر المهجر الأول)؟".
أجل، تبّاً للغربة يا سوزان، لا لأنها أبعدتنا عن أهلنا وربوعنا، بل لأنها كشفت أمامنا همجيّة الحكّام في أوطاننا، وأنهم لـم يسمعوا بالإنسانيّة، ولا بالديموقراطيّة، ولا بحقوق الإنسان، ولا بحريّة التعبير عن الرأي، ولا بالعدل. هذا ما كشفته لنا الغربة، وهذا ما أدمانا في الصميم. فلقد كنّا نعتقد، قبل غربتنا، أن الكون كلّه مبنيّ على الغلط، وأن قوانين الدول كلّها، كقوانين بلادنا، لا تعرف الحق والعدل. ولكن، وللأسف، اتضح لنا أن بلداننا العربيّة، والعديد من الدول الأخرى، ما زالت تعيش حالات مستعصيّة من الهمجيّة والحرمان الإجتماعي والإنساني. وأنها بحاجة إلى معجزات إلهية متعدّدة كي تماشي العصر، وتمحو غربة سكّانها بالداخل، قبل أن تفكّر بعودة مغتربيها، إذ أن الغربة عن الوطن في الوطن أشد مرارة من غربتنا هذه.
وعلى بطاقة ميلاديّة بدون تاريخ، كتبت سوزان عدّة أسطر، تختصر بها كل ما قلته سابقاً، فهي، أيضاً، في الوطن، تائهة في الصحراء، كالمجوس، تبحث عن نجمة الخلاص وباب الأمل، أما ليست هذه غربة في الوطن عن الوطن، بلى واللـه. وإليكم ما كتبت:
"صديقي شربل..
تائهون في الصحراء، كما المجوس، نبحث عن نجمة الخلاص وباب الأمل، بينما العواصف الرمليّة تتقاذفنا من كل جهة.
عجيب أن أكتب لك ذلك في ليلة عيد الميلاد، عيد الأمل والحق والسلام.
السلام؟ نتوق إليه، نتضرّع إليكم أن تصلوا من أجله.
نشتاق إليكم في الأعياد، وعلى أمل لقياكم، نطلب من الطفل الصغير أن يقودنا وإياكم إلى الخلاص".
ألـم أقل لكم أننا بحاجة إلى معجزات إلهيّة كي تتوقف قافلة التشرّد عن الوطن، بعد أن بدأت الدول الراقيّة ترفض لجوءنا إليها؟.. فلقد تبيّن لها أن حبل اللاجئين العرب أطول من يوم الدينونة، وأن تشرّد الشعب العربي من جور حكّامه، وأنظمته التعسفيّة، أكبر من أن تستوعبه الدول، ومنظمات حقوق الإنسان. إنه كابوس حقيقي أطلّ على العالـم، ولا ينقذ العالـم منه، إلاّ انتفاضة الشعب العربي ذاته، وإحقاق حقّه الإنساني والإجتماعي والديموقراطي بدمه الطاهر.
وفي رسالة أخرى بدون تاريخ، وإن كانت قد أرسلتها قبيل حلول عام 1992، كما فهمت من كلماتها، تتمنى سوزان أن تحمل السنة الجديدة وعداً للأمنيات القديمة. ولكي تعرفوا ما هي أمنياتها القديمة، سأنشر ما جاء في الرسالة:
"أيها الحبيب شربل..
يا شاعر قريتي، يا شاعر لبنان..
سنة جديدة تتهيّأ لاستقبال الأيّام، وشبح الحرب يبتعد عن لبنان إلى غير رجعة، إن شاء اللـه.
على عتبة السنة 1992، هل تجوز لنا الأمنيات من جديد؟!
هل يعود إلينا الحلم؟!
هل يمكننا، بعد، الترجّي؟!
أمنيتي أن يعود السلام إلى وطني.
حلمي أن يعود أبناء وطني إلى وطني.
أمّا رجائي، فهو أن أرى وجهك من جديد يملأ شوارع قريتي، بعد أن شرّدتك الحرب في دروب الغربة.
أن أرى بيتك الصغير المهجور يفتح أبوابه للراحة والدفء، ويفتح نوافذه العتيقة، فيشع منها النور من جديد.
هل تحمل السنة الجديدة وعداً للأمنيات القديمة؟".
ستتحقّق، بإذن اللـه، أمنياتك القديمة، أيتها الأخت سوزان، وسيشرّع بيت شربل بعيني الصغير المهجور أبوابه للراحة والدفء، وسيفتح نوافذه العتيقة ليشعّ منها نور الحياة. فأدب شربل، كما قال الأديب سامي مظلوم، هو من أدب الحياة. وأعتقد أن أدباً كهذا، سيعود إلى أرضه، ليعيش إلى الأبد في ذلك البيت الصغير.
**