عبد اللطيف اليونس: أي شعر فصيح لا يمكن أن يسمو على شعور هذا الشاعر باللغة العاميّة

الدكتور عبد اللطيف اليونس.. مَنْ مِنَّا، نحن السوريين أو العرب، لـم يسمع به؟ إنّه أشهر من أن يعرّف، فلقد انتخب نائباً في البرلمان السوري أكثر من مرّة، وخصّه والد الأدب المهجري الأستاذ نعمان حرب بتاسع قباساته عن الأدب المهجري. ومن هذه القبسات أختار:
"بعد زوال عهد الشيشكلي، عاد المجلس الشرعي للإنعقاد، وجرت إنتخابات نيابيّة جديدة سنة 1954، فاز بها اليونس من جديد مرّة ثانيّة بعضويّة المجلس النيابي. وكانت قد تألّبت ضدّه قوى هائلة، وبذل مناوئوه أموالاً كثيرة، ولكنه نجح ورفيقيه اللذين كانا معه في القائمة نجاحاً كان له دويّ في سائر أنحاء البلاد.
الأستاذ اليونس أوّل من طالب بتأميم البترول العربي، وتأميم الشركات الأجنبيّة، وإلغاء جميع الاتفاقات والمعاهدات مع دول الغرب، وعقد اتفاق مع الاتحاد السوفياتي، والوقوف في وجه الإمبرياليّة والصهيونيّة. وقد أحدثت المذكّرة التي قدّمها إلى جامعة الدول العربيّة بهذا الشأن، ضجة كبرى في العالـم كلّه، لأنها كانت أول مطلب من هذا القبيل، ثـم لأنها صدرت عن نائب في المجلس النيابي السوري وأمين سرّه، وتناولت مواضيع مهمة وخطيرة ذات تأثير كبير على دول الغرب كافّة".
على بعض رسائل هذا المناضل والأديب الكبير سأطلعكم، كما سأقوم بتحليل دراسة كتبها عن ديوان مناجاة علي لشربل بعيني، ونشرتها الثقافة السوريّة في 9 أيار 1992 على صفحتها الأولى.
في 12 أيلول 1992، أرسل الدكتور اليونس رسالة لشربل يخبره بها أن الأديب نعمان حرب يعطّر المجالس بذكره، وأنه التقى نسيبه المرحوم يوسف بعيني في سان باولو. وإليكم ما كتب:
"الأديب الكبير الأستاذ شربل بعيني الأكرم..
أعطر التحيّات وأنضرها لقلبك الطيّب المشرق، ولمن حولك من الأخوة الكرام الميامين.
وبعد، لقد تلقّيت رسالتك الكريمة من أديبنا الكبير الأستاذ نعمان حرب، الذي يعطّر المجالس بذكرك وذكراك، وذكر بقيّة الأخوة الذين نعتزّ بهم ونزهو.
وأعتذر لتأخري بالكتابة لك، لأني كنت موجوداً بأحد المصايف القريبة من دمشق، حيث تلطّف الأستاذ حرب وزارني مع الأستاذ مدحة عكاش وبعض الأصدقاء الأعزّاء. وقد انصرفت في ذلك المصيف إلى المطالعة، وألقيت باليراعة إلى حين. فمعذرة أيها الأخ النبيل لتأخّري بالجواب.
نسيبك المرحوم الأستاذ يوسف بعيني كان موجوداً في سان باولو كبرى المدن الأمريكيّة، وكان يشرف على تحرير مجلّة العصبة التي كانت تنشرها العصبة الأندلسية، وكان رئيسها الشاعر الكبير الشهير شفيق المعلوف.
والذي أعرفه عنه أنه من كسروان، وأكثر من هذا لا أذكر. وقد توطّدت الصلات معه، واستمرّت الكتابة بيننا إلى أن انتقل إلى رحمة اللـه، وله ذكرى كريمة في نفوس عارفيه جميعاً، ولا أستثني.
كان ذا يراعة مترفة، وقلب نابض مشرق، ونفس أبيّة نقيّة. وقد نشرت ما كتبه عنّي في كتابي بين عالمين. وكانت له منزلته المرموقة في الجالية العربيّة، وهو في الطليعة من الأدباء المجلّين.
ولكن أكثر أولئك الأدباء قد ضاعت أخبارهم وآثارهم، لأنه لـم يتح لها أن تنشر في حياتهم، مع ألف أسف وأسف!!
أيها الصديق الكريم:
إن لك أثراً كريماً في نفسي، وأرجو متى تتاح لك فرصة زيارة الوطن الأم، أن تذكر أن لك أخاً يحنّ للقائك ولقاء بقيّة إخوانك، وألف أهلاً بك وبهم.
مكرراً وافر تحيّاتي، مقرونة بوافر مودّتي وتقديري.
لاحقة:
منذ أيّام قليلة كنا في زيارة لجبل العرب، حيث أقيمت أمسية أدبيّة في المركز الثقافي العربي بمدينة السويداء، وقد نعمنا وسعدنا بلقاء الإخوة هناك، وفي طليعتهم الأخ الأكبر الأستاذ نعمان رجل الطيبة والمكرمات".
وقبيل حلول عام 1993، أرسل مناضلنا الكبير هذه التهنئة لشربل بتاريخ 23 كانون الأول عام 1992، وفيها يقول:
"الشاعر المبدع الأستاذ شربل بعيني الأكرم
تحيّة الأدب والعروبة، مشفوعة بوافر التقدير والإعتبار.
وبعد: فإني أغتنم مناسبة حلول العام الجديد لأبعث إليكم بأحرّ التهاني، وأجمل الأماني.
راجياً لكم، ولأسرتكم الغالية، ولمن يلوذ بكم من الأنسباء والأصدقاء، عاماً جديداً سعيداً. واللـه يحفظكم ذخراً للمروءة والمكرمات.
مكرراً لكم وافر التحيّات".
وفي التاسع من أيّار عام 1992، نشر اليونس على الصفحة الأولى من الثقافة السوريّة دراسة حول ديوان مناجاة علي الذي ترجم، وما زال يترجم، إلى عدّة لغات عالميّة. والذي قال عنه الشاعر المهجري فؤاد نعمان الخوري في مقابلة صحفيّة أجرتها معه جريدة صوت المغترب، ونشرتها في العدد 1952، الصادر بتاريخ 31 تشرين الأول عام 1991:
"شربل بعيني قام بمحاولة جيّدة في مناجاة علي، حيث أخذ الزجل ليحتكّ بقضايا جديدة من الفلسفة والمصير والكون.. هذه الخطوة بحد ذاتها مباركة".
والآن، سأبدأ بنشر دراسة اليونس والتعليق عليها:
"أحب شعر الزجل، وأحفظ بعضه وأرويه، لكنّي، وأعترف، لست من مؤيّديه، والأصحّ من مؤيّدي نشره بكتب، لينوب عن الفصحى، ويحلّ محلّها.
وقد تكون هذه المحاولات عند بعضهم بريئة، ولكنّها عند البعض الآخر ليست كذلك..
وسعيد عقل أعلن، ويعلن باستمرار، أن رسالته في الحياة، هي أن تحلّ العاميّة محلّ الفصحى في لبنان.
ولو لـم يكن للبنان رسالته العربية والأدبيّة الخالدة خلود الدهر، لكانت صيحة سعيد عقل قد لاقت صداها الإيجابي عند بعض اللبنانيين.
ولكن الواقع اللبناني، والروح القومي الرفيع في لبنان، هما أسمى من أن يؤثّر عليهما داعٍ للإنعزاليّة، وعامل لها، ومستميت في سبيلها.
وتلطّف أديبنا الكبير الأستاذ نعمان حرب، وأهداني ديوان شعر للشاعر شربل بعيني، وعنوانه مناجاة علي، وحينما بدأت بقراءته، نسيت نفسي ووقتي، واندفعت به حتّى أتمتته.
الشعر هو وليد الشعور، وهو ليس وقفاً على قافية ووزن، بل إن له منطلقه في أي رحاب وأي مجال.
وديوان الشاعر بعيني هو شعر حقاً، بصرف النظر عن لونه باللغة العاميّة، وليست الفصحى.
ولا أحب أن أعود لتكرار ما قلته عن معارضتي الكتابة بغير الفصحى، ولكنّي أحب أن أؤكد بأن أي شعر فصيح لا يمكن أن يسمو على شعور هذا الشاعر باللغة العاميّة.
أفكار متتابعة، وصور متسلسلة، وتعبير عن المشاعر: رقيق عذب حلو..
الإمام علي بن أبي طالب دنيا من المكرمات والطيبة والبلاغة، التي لـم يعرف التاريخ العربي مثيلاً لها، لا قبل ولا بعد، كما يعترف بذلك كافة المستشرقين، وسائر المنصفين.
وإذا كانت السياسة، في الزمن القديم، قد حاولت الحدّ من شهرته، والغضّ من قيمته، فإن الجوهر يظلّ جوهراً، ولو علاه التراب، ومتى يزال عنه، يبدو أكثر نضارة وأشد لمعاناً وإشراقاً. وقد قال الفيلسوف والبحّاثة الكبير جبران خليل جبران: (لقد جهل العرب قدر الإمام علي بن أبي طالب، حتى قام بين جيرانهم الفرس قوم يفرقون بين الجوهر والحصى).
من أروع، ولعل أروع ما كتب عن علي بن أبي طالب، هو ما كتبه الكاتب الكبير جورج جرداق، وما أحسب أن في المكتبة العربيّة ما هو أبدع من هذا الكتاب ولا أسمى، لا من حيث موضوعه، وإنما من حيث تناول الموضوع، وكيفية معالجته، والأسلوب الشيّق البليغ الذي كتب به.
ولقد عرف الشاعر شربل بعيني هذه الحقيقة وآمن بها، فأهدى ديوان شعره هذا إلى الأستاذ جورج جرداق، وقال في عبارة الإهداء القصيرة المعبّرة: (إلى الأديب العربي الكبير جورج جرداق، الذي غنّى عليّ بن أبي طالب، صوت العدالة الإنسانيّة، كما لـم يغنّه أحد من قبل).
إنّها عبارة معبرة ومؤثرة، تشير إلى مدى تأثّر شاعرنا بكلمة حقّ تقال، وببيان رائع عذب، وقفه جرداق لخدمة الحقيقة ومواكبتها والدفاع عنها.
ما أشد حاجتنا إلى كتّاب نزيهين منصفين، يرتفعون فوق أي مستوى، ليندغموا بالمثل الأعلى الذي خلقوا منه، وتصبح أقلامهم جزءاً منه.
ويوم نصل إلى هذا المستوى، نصير ناساً كالناس، ولا أقول: فوق الناس، ومعاذ اللـه أن أقول!
تحيّة إلى الشاعر شربل بعيني، وإلى روح نسيبه يوسف البعيني، الذي عرفته في البرازيل، وقد تلطّف وخلّدني بما كتبه عنّي في مجلّة العصبة الأندلسيّة، والذي سيبقى ذكره معي ما بقيت، ويحيا ما حييت.
ومزيداً من العطاءات والإبداع، أيها الشاعر المحلّق المبدع شربل، فمثلك وحده يعمل لوحدة أمته، ويسعى لرفع الحواجز من بينها، وإعطاء فكرة خيّرة نبيلة عنها.
أنت وجرداق وجورج زيدان قد دخلتم التاريخ من أوسع أبوابه، وخلّدتـم في محرابه، فمرحى، ثـم مرحى".
رغم أنني أبديت رأيي في ما يختص بنشر الشعر العامي في كتب، يوم كتبت عن الشاعر السوداني تاج السر الحسن، أجد أن من الأنسب إعادة نشر بعض ما كتبت، وذلك لتوضيح الصورة.
يؤكّد الدكتور عبد اللطيف اليونس، في دراسته، أنه يحب شعر الزجل، وأنه يحفظ بعضه ويرويه، ولكنه ليس من مؤيّدي نشره بكتب، مخافة أن ينوب عن الفصحى، ويحلّ محلّها. رغم أنّه أكّد في نفس الدراسة: "أن أي شعر فصيح لا يمكن أن يسمو على شعور هذا الشاعر باللغة العاميّة".
فإذا كان الدكتور عبد اللطيف اليونس، يعترف أن ما من شعر فصيح يمكنه أن يسمو على شعور شربل بعيني باللغة العاميّة في ديوانه العالمي مناجاة علي، فلماذا إذن لا يؤيّد نشره بكتب؟!.
أما ليس هو القائل عن ديوان مناجاة علي المنشور باللغة العاميّة: "حينما بدأت بقراءته، نسيت نفسي ووقتي، واندفعت به حتّى أتمتته"؟. أفلا يستحق هذا الشعر العامي أن ينشر بكتاب، وفيه ما فيه من السحر واللذة والشعور والبلاغة؟!
ولو لـم ينشر شربل مزاميره الزجلية بكتاب، أما كان اليونس قد حُرم من التمتّع بقراءتها، وحُرم الأدب العالـمي من الحصول عليها، بعد أن ترجمت إلى عدّة لغات، وحرمنا نحن أيضاً من قراءة ومناقشة دراسته الرائعة هذه؟.
ثـم مَن قال إن الشعر العامي سيحلّ محلّ الفصحى؟!.. فمنذ التكوين والشعر العامي يسير بمحاذاة الفصيح، دون أي اصطدام، أو دون أن يخيف أحدهما الآخر، أو أن يفكّر بإلغائه.
أنا أعرف أن الدكتور اليونس، صاحب القلـم الرائع، لا يريد أن يحرمنا من الإطلاع على آدابنا الشعبيّة، ولكن خوفه من شرذمة قوانا اللغوية والأدبيّة، هو الذي أملى عليه ما كتب، وإلاّ لما كان خصّ ديواناً شعبياً بهذه الإلتفاتة المميّزة.
فاليونس يؤكد أن ديوان الشاعر بعيني "هو شعر حقاً، بصرف النظر عن لونه باللغة العاميّة وليست الفصحى". كما أنه يطلعنا على رأيه الصريح الصادق بالشعر: هل هو وزن وقافية، كما يريده البعض أن يكون، أم أنه إبن الحريّة والخيال؟ فيقول: "الشعر هو وليد الشعور، وهو ليس وقفاً على قافية ووزن، بل إن له منطلقه في أي رحاب وأي مجال". ولهذا رأى أن شعر شربل في المناجاة: "رقيق، عذب، حلو".
إنه يريد أن يفهمنا بكلمات قليلة أنه مع الشعر الشعر، أياً كان شكله، وأياً كانت لغته، شرط أن يكون وليد شعور كاتبه، ليس إلاّ.
وفي نهاية دراسته، أو مقاله لا فرق، نراه يعرب عن حاجته إلى كتّاب نزيهين منصفين، يرتفعون فوق أي مستوى، ليندمغوا بالمثل الأعلى، الذي هو الإمام علي، ويوم نصل إلى هذا المستوى، يقول اليونس: "نصير ناساً كالناس، ولا أقول: فوق الناس، ومعاذ اللـه أن أقول".
لقد توقّفت كثيراً عند حاجة اليونس إلى كتّاب نزيهين، التي هي حاجتنا جميعاً، في الوطن والمهجر، فوجدت أن الأنانيّة أعمت بصيرة البعض، والحسد شلّ عقول البعض، والطائفيّة قضت على إنسانيّة البعض. وفي نفس الوقت وجدت أن الكتّاب النزيهين المنصفين ليسوا قلّة على هذه الأرض، بل أنهم نعمة إلهية لبني البشر. وبين هؤلاء الكتّاب وجدت اليونس يشمخ بأنفه عالياً.
أخيراً، يوجّه اليونس هذه التحيّة العملاقة كقلمه إلى شربل:
"مزيداً من العطاءات والإبداع، أيّها الشاعر المحلّق المبدع شربل، فمثلك وحده يعمل لوحدة أمته، ويسعى لرفع الحواجز من بينها، وإعطاء فكرة خيّرة نبيلة عنها.
أنت وجرداق وجورج زيدان قد دخلتم التاريخ من أوسع أبوابه، وخلّدتـم في محرابه، فمرحى، ثـم مرحى".
بعد كلام هذا الأديب السوري الكبير، ماذا بإمكان مهندس زراعي أفنى عمره بزراعة الأرز السوري الشهي، أن يقول؟. لذلك سأنهي كلامي وأخلد للنوم، وطيف سوريا الحبيبة يخفف من غربتي، ويزرع على لساني هذا البيت الخالد من الشعر:
بلادي، وإن جارت عليّ عزيزةٌ
وأهلي، وإن ضنّوا عليّ كرامُ
**