يوبيل شربل بعيني الفضّي

يوبيل شربل بعيني الفضّي عام 1993، كان عرساً أدبيّاً إغترابيّاً قد لا يتكرّر أبداً، فلقد دعت إليه، بحضور سعادة سفير لبنان الدكتور لطيف أبو الحسن، معظم الجمعيّات والإتحادات والروابط الثقافيّة في الجالية. وكانت بطاقة الدعوة إلى الإحتفال أشبه ما تكون ببطاقات الأعراس المخمليّة. على الصفحة الأولى أسماء الجمعيّات الداعيّة، وعلى الصفحة الثانية أسماء المتكلّمين في الإحتفال، وما أن تقرأوا أسماء الدّاعين والمتكلّمين حتّى تدركوا مدى الإلتفاف الديني والوطني والإنساني واللبناني والعربي حول شعر شربل بعيني، في وقت كانت أرواح الأبرياء تزهق بالمئات على الحواجز الطائفيّة والسياسيّة البغيضة في وطن الأرز لبنان، وكانت الدول العربيّة تتحارب من أجل حفنة من الدولارات وبرميلين من النفط. فلقد تكلّم في الإحتفال كل من: سيادة المطران يوسف حتّي، مفتي المسلمين في أستراليا الشيخ تاج الدين الهلالي، الشاعر نعيم خوري، الدكتور قاسم مصطفى، الأستاذ نبيل قدّومي، الشاعر شوقي مسلماني، الأديبة كارولين طاشمان، المهندس رفيق غنّوم، والدكتور علي بزّي. وتغيّب سعادة سفير لبنان الدكتور لطيف أبو الحسن لوجوده في لبنان.
ولنعرف كيف كان الإحتفال وماذا جرى فيه، ومن دعا إليه، أختار من تغطيات الصحف العربية الصادرة آنذاك، مقتطفات مما كتبه الشاعر والمربّي ألبير وهبه في جريدة العالـم العربي، العدد 81، الصادر في 21 كانون الأول عام 1993، تحت عنوان "إجماع على شاعريّة شربل وإنسانيّته وأخلاقيّته المعطاءة":
"بمناسبة مرور 25 سنة على صدور أوّل ديوان شعر مراهقة ـ 1968 للشاعر شربل بعيني، دعت جمعيّة أبناء بنت جبيل في أستراليا، إتحاد عمّال فلسطين ـ فرع سيدني، رابطة إحياء التراث العربي، جمعية تضامن المرأة العربيّة في ملبورن، مثقّفو الجالية العربيّة السوريّة، الرابطة القلميّة للنساء العربيّات في المهجر، الملتقى الثقافي الإجتماعي، جمعيّة المغترب الجنوبي، وأصدقاء شربل بعيني، إلى مهرجان أدبيّ كبير احتفالاً باليوبيل الفضّي لـ مراهقة، برعاية سعادة سفير لبنان الدكتور لطيف أبو الحسن، الذي اعتذر عن الحضور بسبب سفره المفاجىء إلى لبنان، ونقل عبر رسالة تحيّاته إلى المحتفلين، وتمنّى للشاعر شربل بعيني مزيداً من العطاء.
أقيم الإحتفال مساء السبت الماضي، في قاعة بلديّة غرانفيل، بمشاركة سيادة المطران يوسف حتّي راعي أبرشيّة أستراليا ونيوزيلاندة للطائفة المارونيّة، فضيلة الشيخ تاج الدين الهلالي، الأخت كونستانس الباشا رئيسة مدرسة سيّدة لبنان لراهبات العائلة المقدّسة، ترافقها الأخت مدلين دو لاكروا مديرة القسم الإبتدائي، جمعيّات لبنانيّة وعربيّة، مسؤولين عن الصحافة المهجريّة، شعراء وأدباء ومهتمين بالحركة الأدبيّة المهجريّة، وجمهور عريض غصّت به القاعة الكبيرة.
قدّم الدكتور علي بزّي الإحتفال بكلمة شفّافة والمتكلمين بباقات من الشعر، غالبيتها للشاعر المحتفى به.
أجمع المتكلّمون على شاعريّة شربل وإنسانيّته وأخلاقيّته المعطاءة، وتمنّوا له يوبيلاً ذهبيّاً، وشدّدوا على أهميّة متابعة مسيرة العطاء الأدبي عنده".
التغطيّة طويلة وشاملة، لذلك سأكتفي بما نشرته منها، لأنتقل إلى ما قاله المتكلّمون في المهرجان، وما أرسله المهنّئون باليوبيل من أستراليا والخارج. وسأبدأ بكلمة سيادة المطران حتّي، التي تكلّم فيها عن شربل المربّي والمسرحي، ومنها أختار:
"..وقد يفاجأ البعض إذا قلت: إن شربل بعيني الشاعر، في يوبيله الفضّي، لا يهمني، بقدر ما يهمّني شربل بعيني المربّي، واضع العديد من الكتب المدرسيّة، التي تبنّتها الحكومة الأسترالية، وتناقلتها أيدي الطلبة العرب في المغتربات. ومؤلفاته المدرسية هذه، سدّت فراغاً تعليمياً هائلاً، بعد أن شحّت، بسبب الحرب، الكتب العربيّة المستوردة، وعجز البعض منها، عن استمالة الطالب المغترب، وترغيبه النطق بلغته الأم، لو لـم يتدارك شربل بعيني الأمر، ويتفرّغ كليّاً لإعداد كتب مدرسيّة حديثة، قد لا يخلو صفّ أو مدرسة منها.
شربل بعيني في مسرحه الطفولي، أقرب ما يكون لابن المقفّع، هذا استعان بالأطفال، وذاك استنطق الحيوان، والإثنان معاً، نحجا، أيّما نجاح، في تنقيّة المجتمع من فساد، قد لا تتفاوت تأثيراته الإنسانيّة والسياسيّة والإجتماعيّة بين زمن إبن المقفّع وزمننا هذا.
فإذا كان الأدب لا يستقيم بدون قارىء، والقارىء لا يستقيم بدون مدرسة، والمدرسة لا تستقيم بدون معلّم، وجب على هذا المعلّم أن يكون مثل شربل بعيني".
ومن كلمة وقصيدة مفتي المسلمين في أستراليا الشيخ تاج الدين الهلالي أنقل الآتي:
"أن نرى رجالاً ونساء وشباباً يقدّرون الأدب والأدباء، وحضروا في هذه الأمسيّة السعيدة، من أجل وقفة وفاء مع أديب أعطى. إنه شاعرنا وشاعركم الذي أحببتموه من قلوبكم الأستاذ شربل بعيني.
لا أملك من كلمات الشكر والإمتنان على من ملّكه اللـه، تبارك وتعالى، زمام البديع والبيان، فأعطى لأمته في نظمها ونثرها وشعرها المقفّى الموزون ما جعله يتربّع على عرش الشعراء:
ـ1ـ
بدأت مقالي مستعيذاً مبسملا
وأحمد ربّي رغبةً وتوسّلا
ومنّي صلاةٌ مع سلامٍ لأحمدَ
رسولاً من الرحمن للخلق أُرسلا
فهذا قريض للطويل مقلّداً
فعولن مفاعيلن ومرّتين تكمّلا
توخّيتُ أمراً لـم يكن من سجيّتي
ولست له قبلاً أرى متأهّلا
ولست لبحر الشعر أدري سباحة
ولكنني دخلته متطفّلا
وإني لدى النقّاد أرجو قبولها
على نقصها ولا أبالي بمن قَلا
لأن كريم القوم يستر عيبَها
وذا حسدٍ إن لـم يجده تقوّلا
فقد جئت في شوق حنينٍ وهمّةٍ
على أملٍ كي أحيّي شربلا
ـ2ـ
تبسّم الروض بالأزهار يحيينا
وشربل الشعر بالتغريد ينشينا
يا ما أحيلاه تغريداً لشربلنا
وشدوِ من بقريض الشعر يشدينا
ـ3ـ
إنّ ذا يومٌ سعيد
هلا يا أحبّةَ عيني
إن ذا يومُ الوفاء
لك يا شربل بعيني
إن هنّأك الجمعُ مرّه
لأهنّأنَّكَ مرّتينِ.
إذا راجعنا جيّداً كلمات سماحة المفتي، نجده قد سبق المجلس القاري للجامعة اللبنانية الثقافيّة في العالـم ـ قارة أميركا الشماليّة بسنوات عديدة، وأعلن للتاريخ أن شربل بعيني قد "تربّع على عرش الشعراء"، تماماً كما فعل سيّادة المطران يوسف مرعي في رسالته التي وجهها إلى شربل بعيني "أمير الشعر في المهجر"، أو كما أعلن الأديب السوري نعمان حرب، وعلى الصفحة الأولى من الثقافة، أن شربل بعيني "شاعر العصر في المغتربات". وصدّقوني، وبعد معرفتي الطويلة بشربل، أن كلّ هذه الألقاب لا تعني له شيئاً، سوى أنها تنمّ عن احترام مطلقيها لشعره، ومحبّتهم له، وهذا يكفي للتمسّك بها، والدفاع عنها.
رئيس إتحاد عمّال فلسطين، والمسؤول الإعلامي لمنظّمة التحرير الفلسطينيّة، السيّد نبيل قدّومي، ركّز، في كلمته، على الثّورة في شعر شربل بعيني، وخاصّة في ديوانه قرف، وإليكم بعض ما قال:
"هل حدّة كلمات قصيدة (قرف) أقوى من حدّة قتل كمال جنبلاط ورينيه معوّض؟
هل حدّة هذه الكلمات أقوى من حدّة المواقف التي تعرّض لها الشاعر الأستاذ محمود بيضون، الذي قيلت هذه القصيدة في مناسبة وداعه يوم غادر هذه البلاد؟
إنّي أهنّىء شربل وأقول: إن الشعوب تحتاج إلى كلمات فيها شدّة أكثر من كلمات قصيدة (قرف).
في هذا اليوم، يوم اليوبيل الفضّي للشاعر شربل بعيني، يجب علينا أن نعتز بشاعر قدّم للإنسانيّة، للمجتمع، للعلم، للأدب، للشعر وللشعراء مدى عقدين ونصف من التعب والعطاء. فإنّي أهنّئكم، أهنّىء والدته، وأهنّىء لبنان بالشاعر شربل بعيني.
فتحيّة لشربل باسم فلسطين بهذه المناسبة الغالية على أمل أن نلتقي، بإذن اللـه، في يوم شربل الذهبي هنا في سيدني، أو في الوطن الذي أحبّ".
الشاعر المرحوم نعيم خوري استهلّ قصيدته بكلمة طويلة وبليغة، ولكنني سأكتفي بنشر بعض الأبيات من قصيدته الرائعة، الّتي هي أشبه ما تكون بشلاّل من الورد، تفوح منه رائحة المحبّة الغامرة، التي لـم يتسرّب إليها الحقد أو الحسد إطلاقاً:
يا أنت.. يا وطني! ساعي البريد هنا
سئمت أصابعه من رنّة التّعبِ
مرحى طلائعك.. استفتي طلائعنا
يا شعلةَ الشرقِ.. هذا شربلٌ عربِي
صبّاً، أتى الكونَ، غنّاه، وأسكره،
وشمخةُ الشّعرِ زلزالٌ من الغضبِ
جنيّةُ الشّعرِ ربّته على يدها
وليس كالشعر مدعاةٌ إلى العجبِ
ومجدليّا التي ما زال يحفظها
صوتاً يضيء على أوتار مغتربِ
غداً يعودُ قناديلاً مشرّعةً
ميناؤه الحلمُ.. يا لبنان فالتهبِ
هذا البعيني حداثته، وطلّتُها
من مطرح الشّمس ما انهارت ولـم تغبِ
يوبيله الفضيُّ بالعينين نكتبه
حتّى يشعَّ، غداً، يوبيله الذّهبي.
رئيس جمعيّة أبناء بنت جبيل الدكتور خليل مصطفى ناب عن أخيه الدكتور قاسم الذي انتقل للعيش في لبنان، وألقى كلمة الجمعية التي أنتقي منها:
"ها أنا أيّها الشّاعر الكبير أقف أمامك في يوبيلك الفضّي، لأنقل إليك تحيّات أبناء بلدتي بنت جبيل، التي كان لها القسط الوافر من ديوانك الأخير، حاملاً إليك كمشة من تراب باحة جامعها مغمّسة ببخور كنيسة مجدليّا.
أحمل إليك رسالة شكر من قبر الشاعر الوجداني الكبير موسى الزين شرارة.
أجل، أيها الحضور الكريم، أحمل كل هذا كعرفان بسيط للجميل، لما خطته أصابع الشاعر شربل بعيني في سبك كلمات قرف، الذي اعتاد أطفال ونساء وشباب وشيوخ بنت جبيل أن يسموها درراً".
كلمة صاحب ورئيس تحرير مجلّة أميرة، الشاعر شوقي مسلماني، سلّطت الضوء على شربل الطفل والثائر، وإليكم بعض ما قال:
"نعم، لقد عرفت شربلاً منذ وصولي إلى هذا البلد المتحضّر، أي منذ ستة عشر عاماً تقريباً. عرفته وقرأته، ومنذ اللقاء الأوّل تكشّفت إلماسة حياته بكل لمعانها وصفائها: طفل شبّ وكبر دون أن يتخلّى لحظة عن ملائكيّة الأطفال فيه، وثائر محرّض على كلّ متخثّر وبالٍ، دون أن يفقد الخيط الفاصل بين الثورة والفوضى".
الشاعرة كارولين طاشمان ألقت كلمة الرابطة القلميّة للنساء العربيّات في المهجر، فكان لكلمتها وهج أنثوي فوّاح، ومن هذا الوهج أختار:
"إننا في الرابطة القلميّة للنساء العربيّات في سيدني نرى أن من حق الشاعر شربل بعيني أن يفرح بيوبيل كلمته الفضّي، ولكن من يحقّ لها أن تفرح أكثر، هي الأم التي أنجبت وتعهدت ورافقت درب الشاعر في كل مسالكها الصعبة، فسهرت تهذّب كلمات ابنها الشاعر، وتسدي إليه النصح، وتسدد خطاه ليصل إلى ما وصل إليه، وحتّى يكون لكلمته وقع يدفع هذا العدد من مؤسسات الجالية لإقامة هذا الإحتفال التكريمي".
وأخيراً، أعطيت الكلمة لي، لأعلن، منذ سنوات عديدة، كما أعلن اليوم "أن شربل بعيني طوال ربع قرن من العطاء المتجدّد، رفض إلاّ أن يكون صوت الناس المظلومين المقهورين المشتتين مثلنا على طرقات المنافي. وهذا هو سر ديمومته وتكريمه المتواصل من قبل شرفاء الكلمة في كل مكان".
كما أنني لا أنسى صيحتي في آخر فقرة من الكلمة، تلك الصيحة التي ما زلت أردّدها بيني وبين نفسي: "هنيئاً لنا، كوننا نحيا وشربل بعيني في منفى واحد".
وقبل أن أنتقل إلى مختارات من المقالات والقصائد التي نشرت حول اليوبيل، أود أن أنهي كلامي بما بدأته به، أي بالتغطية الإعلامية التي كتبها الشاعر ألبير وهبة، والتي يقول في نهايتها:
"في نهاية الكلمات وقبيل الكوكتيل بالمناسبة، تسلّم الشاعر شربل بعيني هدايا تكريميّة باليوبيل. فسلّمه رئيس جمعيّة أبناء بنت جبيل، باسم الجمعيّات والتنظيمات المشاركة بالإحتفال، لوحة فنيّة.
الدكتور عبد اللـه خضر قدّم له ترجمة مناجاة علي باللغة الفرنسيّة. الأديبة نجوى عاصي قدّمت له كمشة من تراب مجدليّا أوصى الشاعر أن تنثر فوق قبره إذا وافته المنيّة في هذه الديار. كما تسلّم هديّة من شقيقه جوزيف، وأخرى من الطالبة أوليفيا شينا.
وقطع الشاعر قالب الحلوى بالمناسبة، وإلى جانبه سيادة المطران يوسف حتّي وفضيلة الشيخ تاج الدين الهلالي.
وكان الكوكتيل مناسبة لقاء أدبي، والجدير بالذكر أن القيّمين على هذه المناسبة وزّعوا كراريس تحمل كلمات قيلت بالمناسبة، ومجموعة من دواوين شربل بعيني.
العالـم العربي تهنّىء مجدداً الشاعر شربل بعيني بهذه المناسبة، وتهنّىء اليوبيل به، لأنه يرتاح على صدر ما عرف غير الحب والعطاء، وبيد ما عرفت غير المصداقيّة والشعر طريقاً إلى اللـه".
واللوحة التي أهديت لشربل، تعتبر من أهـم الأعمال الفنيّة التي نفذّها الفنان المهجري المعروف علي حبيب، فلقد حفر على الجلد رسم الشاعر بعيني، وهو يرتدي بذلته السوداء، ويحمل بيده ديوان مراهقة، وحوله يلتف العديد من أبناء الشعب كالجندي، والفلاح، والمعلّم، والعامل، وربّة العائلة، والطفل، وما شابه، وخلفه تتعملق جبال لبنان الشامخة المتوجة بأرز الربّ الخالد.
الإحتفال الخارجي بيوبيل شربل بعيني الفضي كان على مستوى الإحتفال الداخلي الذي أقيم في القاعة، كي لا أقول: بزّه انتشاراً!!. فلقد وصلته العشرات من المقالات والقصائد والرسائل من العديد من الأدباء والشعراء المهجريين والمقيمين في البلدان العربيّة، منها ما ضمّته الكتيّبات التي أصدرتها لجنة الإحتفال، ومنها ما بقي طي الأرشيف. واعذروني إذا استشهدت بالقليل القليل منها، فهناك العديد من المواضيع الهامة التي لـم نتطرّق إليها بعد في مسيرة شربل بعيني الأدبيّة.
أول المقالات الهامّة التي سأستشهد بها، مقال كتبه الأديب السوري الكبير نعمان حرب عام 1993، ونشرته مجلّة الثقافة السوريّة على صفحتها الأولى، تحت عنوان بارز: "مهرجان أدبي كبير في أستراليا بمناسبة اليوبيل الفضّي للشاعر الكبير شربل بعيني"، وفي هذا المقال أعلن نعمان أن شربل بعيني هو شاعر العصر في المغتربات. وإليكم بعض ما جاء فيه:
".. والشاعر المبدع شربل بعيني أغنى المكتبة العربيّة بمؤلّفاته الأدبيّة من شعر ونثر، وبجميع الألوان والأوزان، حتّى بلغت إصداراته الأدبيّة سبع عشرة مطبوعة، وأربعة كتب مدرسيّة، أعيد طبع بعضها ثلاث مرّات، وكتب عنه الأديب المهجري كلارك بعيني سلسلة شربل بعيني بأقلامهم بلغت سبع دراسات. وكتب عنه الأديب الكبير كامل المر مؤسس رابطة إحياء التراث العربي في أستراليا دراسة شاملة. وكتب عنه الأديب العربي السوري محمد زهير الباشا دراسة بعنوان شربل بعيني ملاّح يبحث عن اللـه. كما نشرت له مجلّة الثقافة في دمشق العديد من القصائد الوطنيّة ذات النهج العربي الإنساني والوطني والإجتماعي.. وما زال الشاعر الغرّيد يعلو بصوته في أعلى الأجواء المهجريّة، وينشد الملاحم المتميّزة من الإبداع في كافّة المجالات الأدبيّة.
إنّني على صلة دائمة بأدباء وشعراء المهجر في كافّة أنحاء المعمورة، وأرى أن الشاعر شربل بعيني هو شاعر العصر في المغتربات، لا يوازيه أي أديب مهجري بغزارة الإنتاج الأدبي، ووضع مجهوده، وعبقريته، وماله، رهناً لإعلاء الأدب والفكر، وغرس الكلمة العربيّة في القلوب والنفوس، وبذل الذّات للحفاظ على ألق الحضارة العربيّة، وشدّ العلاقات والأواصر بين أبناء المغتربين وإخوتهم المقيمين.
شربل البعيني، شاعر الغربة الطويلة، وأمين سرّ رابطة إحياء التراث العربي في أستراليا، ينبوع متفجّر بالعطاء الإنساني والأدبي، وعربي متميّز بالبذل والكرم والسخاء، وبيته ملتقى الأدباء والكتّاب، وكأنّه (سوق عكاظ)، يجد فيه الزائر العربي، من أيّ مرتبة رسميّة وشعبيّة، الترحيب والعناية والنور المتفتّح من جوانبه، وهو كما قال عنه بعض الأدباء: "يحارب المجزرة بضمير ومثاليّة، يفتّت سيف شهريار بعبره ومروءته، يمتلك الحقّ في روايته الفنيّة، وتشدو صوره الشعريّة لخير البشريّة، وليتعمّد الإنسان وحده في صلاته باللـه".
دخل الشاعر شربل في سفره الطويل في مواكب القريض، إلى داخل الإنسان العربي، وأصبح ذلك المسافر الأزلي في النفس البشريّة، وسوف يبقى صوته مدويّاً، ليس في سماء أستراليا وحدها، ولا في سماء البلدان المهجريّة، بل سيبقى مدويّاً في أرجاء شاسعة من المعمورة.
إنّ هذا المهرجان الأدبي الكبير، الذي تقيمه الجالية العربيّة، بكافة منظماتها وهيئاتها المختلفة، لتكريم الأدب في شخص شربل بعيني، مساء يوم السبت في 18 كانون الأول 1993، هو مهرجان لكل أديب ينطق بالضاد في العالـم، وهو وسام شرف على صدر كل أديب عربي، ووشـم على غلاف القلب العربي، أينما كان، لا يمّحى ولا يزول.
فألف مرحى للقائمين بهذا الإحتفال، وتحيّة إلى شاعر الغربة الطويلة، وتهنئة من الأعماق ترسلها دار الثقافة في سورية العربيّة".
أعتقد أن كلاماً كهذا ليس بحاجة إلى تفسير، أو إلى تعليق، فكل حرف فيه يخبرنا عن محبّة نعمان لأدب شربل، وأن الأدباء الكبار، دائماً وأبداً، يعرفون الحقّ والحق يعرفهم.
ومن الولايات المتحدّة الأميركية أرسل أديبنا المهجري الكبير محمد زهير الباشا كلمة لتقرأ في المهرجان، ولكن كثرة المتكلّمين حالت، وللأسف، دون ذلك، وهذا ما أدركه الباشا بحسّه المرهف قبل وقوعه، فاستهلّ كلمته بهذه العبارة الواعيّة: "إذا نالت الموافقة، فأهلاً. وإن كثر الخطّاب، فأخجل، وأنصت إلى الحضور بقلبي، ولو كنت على شاطىء الأطلسي!!". ومن كلمته أختار:
"وها هوذا الشاعر شربل بعيني ينادي بسقوط الباستيل، فترتفع في شوارع مدينة النور أغنيات الحبّ، وتلتهب الأنفاس، فتحنو على الصدور آهات المعذّبين، خاصةً وهو الذي قطف من رؤوس (المجانين) موسماً، رصّع به خزانته، التي أثـمرت الريف، وأينعت أوراق السنابل.
بإباء السيف المرهف، رفض أن ينصب خيمة لاجىء، ولمّا احتجّ عمر الخيّام على ازدحام الجائعين، ضاعت منه شعرة من ذقن أبي نؤاس، فطالت غربة النفس.
ولجأ الشاعر إلى كلّ ريف، ومعه قطرات من زيت مقدّس يشفي به الهائمين نحو الحريّة والحبّ، ليبعد عنهم الإغتصاب لكل جسد، والإستلاب لكل ثروة.. وظلّ الوطن دمعة وأملاً.
لكن الشاعر تسامى، بعد أن قبض على قطرات الزيت، وناجى عليّاً، كرّم اللـه وجهه.. ونحن ما زلنا نستنير بالشعر، وإن قتلتنا في الوطن مجازر الشعارات".
ومن سوريا، أرسل له عضو إتحاد الكتّاب العرب الصحفي الشاعر مفيد نبزو هذه الأبيات:
أنت لحنٌ من ينابيع الأزلْ
زفّ، يا شربل، أشعاراً إليّا
كرمةُ العاصي عروساً لـم تزلْ
تعشقُ الأرز الّذي في مجدليّا..
كما أرسل صاحب ومدير معهد الأبجديّة في جبيل ـ لبنان، الدكتور عصام حدّاد، كلمة كبيرة كقلبه الكبير، يقول فيها:
"أعضاء لجنة تكريم الشاعر شربل بعيني المحترمين
إن تكريمكم الشاعر الكبير شربل بعيني، هو تكريم الشعر والوطنيّة والأمّة ولبنان.
منذ ربع قرن، وهو يذوب قرباناً على مذبح الغربة في هيكل الفكر، حاملاً في قلبه وروحه وعينيه همّ الفكر والأمّة، وهمّ لبنان، وهمّ الإنسان، بشفافيّة إطلالات الصباح على تلالنا، وطيبة نفحات عبير الأرز في رحابنا، وحنين رقرقات الينابيع في وهادنا، وبعنف زفير النّار وثورة الإعصار على كلّ دمار، للتقويم والتثقيف والبناء.
آتانا اللـه دوماً رجالاً ذوي أصالة وإبداع وفداء، رسل الكلمة والحب والعطاء.. فبمثلكم تحيا الأمم ويعزّ الفكر".
ومن الرابطة الثقافيّة في معهد الأبجديّة ـ جبيل، وصلت هذه التهنئة:
"حضرة الشاعر الكبير شربل بعيني المحترم
بمناسبة اليوبيل، الذي تنادى أهل الفكر في أستراليا، من كل وطن وأمّة، لإحيائه، تقديراً لشاعريتك المبدعة، ووطنيّتك الرائدة، وثورتك على الإعوجاج والطغيان في كل كتبك، التي تربو على العشرين، لإعادة الإنسان إلى أصالته.
يطيب لنا، بكل فخار واعتزاز أن نبعث إليك بأصدق التهاني وأحرّ الأمنيات، متمنين لك دوام الصحّة والعطاء، خدمة للإنسان والفكر ولبنان".
رئيس تحرير جريدة النهار المهجريّة الأستاذ أنور حرب، جاءت تهنئته مذهّبة، ومزيّنة بباقة من الأزهار لـم ينجبها سوى ربيع كفرزينيّ الطلّة والإشعاع والبهجة، وإليكم ما كتب:
"أخي شربل..
كلمتك في أبعادها أسمى من الأصفر الرنّان، أو من لون الفضّة. كلمتك متحرّرة من روزنامة الزمان، قد تتمثّل بربع قرن أو نصفه، لكنّها لن تعلّب في عيدٍ، أو تتحجّم في مناسبة.
شربلنا.. يوبيلك والجمال توأم في عالـم الكلمة. وأنت، أنت رسّامٌ بالكلمات، وشاعر بالألوان.
هنيئاً لليوبيل بكلمة اسمها شربل بعيني. هنيئاً لشربل بعيني بكلمة خطبته دون أن تتزوّجه، فظلّ الحبّ بينهما جسر عبور بين البعد والجمال".
رئيسة جمعيّة تضامن المرأة العربيّة في ملبورن، الأديبة نجاة فخري مرسي، كانت كلمتها أولى الكلمات التي زيّنت أحد الكتيّبات التذكارية التي أصدرتها لجنة التكريم، ومنها أختار:
"كنت، بالأمس، أقرأ في مجلّة الحوادث اللبنانيّة ـ عدد أكتوبر الماضي ـ فاستوقفتني في باب (من المحرّر) عبارات حول الإقتباس والتقليد تقول: (في الفكر والأدب والصحافة لا مزاح ولا أنصاف مواهب، بل إنّه الجدّ حتّى تفضّل العين أختها، كما يقول المتنبي، وحتى يكون اليوم لليوم سيّدا). فإن العين لا يمكن أن تشبه العين مائة بالمائة، وكذلك نقطة الندى، وقطرة الماء. فمن قال إذن، إن كل شاعر يستحقّ التكريم؟!
وبما أن لشاعرنا شربل بعيني موهبته الكاملة، وله مستواه المتميّز بالصفاء والنقاء، الذي يؤثّر ويتأثّر، ولكن دون نقل أو تقليد، استحقّ تكريمكم وتكريمنا، وجعلنا نحتفل معاً بيوبيله الفضّي، بعد ربع قرن من العطاء، بعيداً عن الطائفيّة والعنصريّة، قريباً من قلوب قرّائه، بل كان ولا يزال إبن وطنه البار، وإبن جاليته المعطاء".
الدكتور أنيس مرسي، زوج السيّدة نجاة، لـم يرد أن يشاطرها كلمتها، بل أرسل لشربل كلمة وقصيدة في آن واحد، ولسان حاله يقول: "لا البعد، ولا المسافات تقدر أن تفرّق بين قلبي وقلبك في هذه الليلة التاريخيّة. لذا قرّرت أن أكرّمك بلغتك الشعريّة، مع أنني لست بشاعر. لا، ولكن شاعريتك أصابتني بالعدوى المحبّبة".
والظاهر أن شاعرية شربل قد أصابت حقاً صديقنا الدكتور مرسي، لأن قصيدته تثبت ذلك، وبوضوح تام:
ينبوع شعرٍ لا يجفّ فينضبُ
يشدو به قلبٌ كبيرٌ طيِّبُ
قرض المعاني في إطارٍ محكمٍ
بالصدقِ والإيمانِ فَهْوَ مذهّبُ
قد طار في دنيا الحقيقة مؤمناً
لـم يثنِهِ لومٌ حقودٌ غاضبُ
الحبّ مبدأه يدين بدينه
والحقّ في جنبيهِ دوماً مَذْهَبُ
ناجى عليّاً في قصيدٍ مشرقٍ
يحويه سفرٌ في المديح مبوّبُ
جمع البلاغة حكمةً وفصاحةً
يشفى بها القلبُ السقيمُ المتعبُ
أعطى الكثيرَ بروحه وفؤادهِ
فالكلّ ينهلُ من نداه ويشربُ
أدعوك ربي أن يظلّ مؤيّداً
تشدو (بشربلها) القلوبُ وتطربُ.
لقد استجيب دعاؤك يا دكتور أنيس، فشربل ما زال مؤيّداً، وما زالت القلوب تشدو بأدبه وتطرب، وخير دليل على ذلك تتويجه أوّل أمير أدبيّ في دنيا الإنتشار اللبناني، من قبل المجلس القاري للجامعة اللبنانية الثقافيّة في العالـم ـ قارة أميركا الشماليّة.
أما أنا، ورغم مشاركتي بالإحتفال الداخلي، فلقد أبيت إلاّ أن يكون لي صوت في الإحتفال الخارجي، فنشرت كلمةً في أحد كتيّبات التكريم، أختار منها:
"الشاعر شربل بعيني الذي نحتفل بذكرى مرور خمسة وعشرين عاماً على صدور مراهقة، كان فناناً مبدعاً في تجسيد المفاهيم الإنسانيّة بأشعاره، التي حملت في طيّاتها مضامين إجتماعيّة ووطنية خالدة".
الشاعر ألبير وهبه، نشر في جريدة العالـم العربي مقالاً رائعاً بمناسبة اليوبيل، أنتقي منه:
"يوم كتب شربل بعيني مراهقة ـ أول عمل شعري له ـ كان، آنذاك، لـم يزل ذلك الفتى الذي تشدّه بيادر مجدليّا، وكروم العنب والتين، ويلاحق تنانير الفراشات ومراجيح الشعر على طريق مجدليا ـ القبّة، مساء كل يوم على مدارات أيام السنة.
لـم يكن يعلم أن البحر سيناديه، وستحمله رياح الأحلام إلى جزيرة بعيدة، خلف المحيط الكبير، يزرع سهولها بيادر شعر، ويطوّف أنهارها تيارات محبّة، ويزيّن حدائقها صداقات متينة، ويساهم في زرع أول نواة للأدب المهجري الموثّق في أستراليا.
قبل شربل، مرّ على سطح هذه الجزيرة شعراء وأهل أدب وفكر، وبعده نزل فيها شعراء أفذاذ، وأدباء مشهود لهم، شغلتهم الغربة، وحكايات مغاور الزمرد والياقوت التي ترصدها الحسان، فانشغلوا عن الشعر والأدب بفك رصدها.
وحده شربل بعيني، ترهّب في صومعة الشعر والكلمة ثائراً، عاشقاً، متعبّداً، مناجياً. إلى هذا، وشربل لـم يكن يعلم أنه سيصبح (بحاراً يبحث عن اللـه)، أو (مشواراً) على دفاتر الأدباء، وفي قلوب الأصحاب والأحباب، ويوبيلاً هو فضّته وذهبه وعقيقه.
هذا هو شربل بعيني الشاعر والإنسان والمربي.. سواء أحببت شعره أم لا، فلا تستطيع أن تنكر عليه حقّ الأسبقيّة في إغناء المكتبة المهجريّة بالعطاءات الغزيرة، وبتفعيل الحركة الأدبيّة العربيّة في المغترب الأسترالي".
بربّكم قولوا: أليست شهادة ألبير وهبه بألف شهادة؟.. وكما قلت سابقاً، لا يعرف الحقّ سوى أصحابه، وألبير نطق بالحق، وشهد شهادة أدبيّة جريئة، تعجز أفواه كثيرة من النطق بها، رغم صدقها.. إذ أن الحقيقة لا تكون إلاّ صادقة.
وفي حديث إذاعي أجرته معه السيّدة ماري مرسي قبيل الإحتفال، أخبرنا الدكتور علي بزّي قصّة اليوبيل، وكيف نبتت في غربة صحراويّة لا تعطي سوى العوسج، فقال:
"نحن، في جمعيّة أبناء بنت جبيل، فكّرنا في تكريم الشاعر شربل بعيني بمناسبة صدور ديوانه قرف، الذي أهداه لبنت جبيل. وفي اجتماع ضمّنا مع بعض فعاليّات الجالية العربيّة، طرحنا الفكرة، فقالوا: لا.. يجب أن يكرّم شربل بعيني على مستوى الوطن العربي ككل، وعلى مستوى الجمعيّات العربيّة الموجودة في أستراليا، ونشأت فكرة اليوبيل الفضّي، بعد مرور 25 سنة على صدور أول ديوان للشاعر شربل بعيني، وهو مراهقة 1968".
هذه هي حكاية يوبيل شربل بعيني الفضّي، حكيتها باختصار زائد، رغم كثرة التغطيات الإعلاميّة، ولكن بقيت كلمة واحدة لـم أستشهد بها، ألا وهي كلمة الشاعر المحتفى به أخي وصديقي ورفيق دربي الإغترابي شربل بعيني، فإليكم بعض ما جاء فيها:
"أيها الأحباء الكبار
أتحتفلون بيوبيلي الفضّي، أنا المغمّس بالفقر وبالتشرّد؟ الضّائع بين وطنين أرى منهما وفيهما دنياي؟
أتأتون بالعظماء متحدّثين، وبالأحباب، من سيدني وملبورن وباقي الولايات، مشاركين، ووبيني وبين العظمة منأى؟!
غريب وضعي بينكم، وأنتم من أنتم، مركزاً، قداسة، أدباً ومحبةً.. أفيكرّم مَنْ تكريمكم واجبٌ عليه؟!.
يا ذهب الجالية، يا ماس الكلمة، يا إعلام الحق، يا منظمي هذا اليوبيل، ماذا فعلتم بي؟.. ماذا فعلتم بابن مجدليّا؟.. لقد فضحتموني، وقطعتم بنصيبي بعدَ أن بيّنتم عمري الحقيقي أمام الحلوين!.. فأنّى لي أن أجد نصفي الثاني بعد اليوم، وأنّى للصبغة أن تستر شيبتي.. سامحكم اللـه.. سامحكم اللـه".
**