كل (البروجكتورات) عليه

ما من شاعر مهجري كُرِّم من قبل شعبه، أو أقيمت الندوات حول أدبه، أو سلّطت عليه كل (البروجكتورات)، على حدّ تعبير الصحفي جوزاف بو ملحم، كالشّاعر شربل بعيني. فما من عمل أدبي قام به، إلاّ وهزّ الأوساط الأدبيّة والدينيّة والإجتماعيّة. ومن منّا ينسى ذلك الضجيج الأدبي الذي سبّبته، في أستراليا، قصائد مجانين، وأللـه ونقطة زيت، وكيف أينعت السنابل؟ ومناجاة علي وقرف، وغيرها وغيرها..
كما أن قصاصات الصحف والمجلاّت اللبنانيّة التي تنام قريرة العين في أرشيف شربل بعيني، تخبرنا أن قصائده الأولى في لبنان أحدثت ضجيجاً إعلاميّاً أعلى من الضجيج الذي سبّبته له قصائده المهجرية، ويكفي أن تكون السبب في نفيه من لبنان عام 1971. 
من أحد ردود شربل القليلة، والقليلة جدّاً، على نقّاده، أختار الآتي:
"إنّها ليست المرّة الأولى التي أشكَّك بها وأُرجم، فلقد شُكِّكت مرة بأخلاقي، إثر صدور ديواني الأول مراهقة سنة 1968، عندما كتب الناقد توني سابا ـ بالتاء ـ (هذا إسم مستعار، عمل صاحبه مستشاراً لأحد رؤساء الجمهورية اللبنانية)، في مجلّة السّاخر مقالاً دعاني به إلى الإلتحاق الفوري بمسرح فاروق، وكلنا يعلم ما مسرح فاروق!.
وشكّكت بديني، مرّة ثانية، عندما انتقد الأب نعمة اللـه ك. قصيدتي (القدر كذّاب.. القدر مجرم)، في مقال نشرته له جريدة البيرق الييروتيّة في ملحقها الأسبوعي، العدد 166، سنة 1969.
وها هي المرّة الثالثة، تأتي بعد سبعة عشر عاماً لأُشَكَّك بوطنيّتي!!".
إذن، لـم يسلم أدب شربل بعيني من النقد الشديد، ومن التجريح الشخصي في بعض الأحيّان.. ولكن شربل، في كلّ مرّة يتعرّض بها للتجريح، كان يخرج من المعركة منتصراً، ويتنادى العديد من شرفاء الجالية لتكريمه ودعمه، وفي كثير من الأحيان، للدفاع عنه.
ومن حفلات التكريم التي لا ينساها شربل، تلك التي أقامها له أبناء بلدته مجدليا في صالة الليالي الذهبيّة في بانكستاون عام 1991، بإشراف السادة حنا ويوسف وألبير أبي خطّار، وشليطا وحنا كرم، والدكتور جوزيف لويس بعيني، وآميل أبي خطّار، وأنطوان وجوزاف ومرسال سركيس بعيني وغيرهم.
قصّة هذا التكريم طريفة للغاية، كان قد أخبرني إيّاها شربل عدّة مرّات، والبهجة تعلو تقاسيم وجهه. وأجد لزاماً عليّ أن أطلعكم عليها:
ذات يوم، اتصل به رجل الأعمال المجدلاوي السيّد يوسف أبي خطّار، وطلب منه أن يرتدي بذلته الرسميّة بأسرع وقت ممكن، بغية اصطحابه إلى اجتماع ضروري، فصاح به شربل:
ـ أخبرني يا يوسف.. هل مات أحد أعرفه؟
ـ لا سمح اللـه.. أنت إلبس بذلتك، وضع ربطة عنق، وانتظرني.
وبعد نصف ساعة من المكالمة الهاتفيّة، كانت سيّارة مرسيدس فخمة، يقودها يوسف بنفسه، تتوقّف أمام منزل شربل بعيني، وليس بداخلها أحد على الإطلاق، فخاف شربل أن يركبها، وتراجع إلى الوراء وهو يستحلف يوسف أن يخبره الحقيقة، وإلى أين سيذهب به؟!
وطار الغبار من تحت دواليب المرسيدس، ويوسف أبي خطّار يهدّىء من روع شربل، ويمازحه طوال الطريق، دون أن يخبره عن المكان الذي سيأخذه إليه، أو أن يلمّح له بأي شيء. لقد كان ينفّذ خطّة مدروسة بإتقان بالغ، وقلب شربل ينبض بسرعة، والأفكار تتقاذفه في كل اتجاه، ما عدا اتجاه تكريمه من قبل أبناء مجدليا.
وفجأة، توقّفت السيّارة أمام مطعم "الليالي الذهبيّة"، فالتفت شربل إلى يوسف وقال:
ـ ماذا جئنا نفعل هنا؟
فردّ عليه يوسف ببرودة زائدة:
ـ سأخبرك داخل الصالة..
وفي الداخل كان العديد من المجدلاويين المغتربين بانتظار وصول شربل، وقد أُعدَّت له طاولة أشبه ما تكون بتلك الطاولة التي يجلس عليها العروسان وأشابينهما وإشبيناتهما في أعراس الجالية.
ولأنني لا أعرف ماذا قيل لشربل في هذا التكريم، سأتركه وأعود إلى موضوع يتعلّق بالضجيج الذي تحدثه الأعمال الأدبيّة التي يقوم بها، أو التي تقام حول نتاجه، وأكثر الندوات التي أحدثت ضجيجاً كانت تلك التي دعت إليها رابطة إحياء التراث العربي في أستراليا عام 1986، "لدراسة نتاج شاعر الغربة الطويلة الأستاذ شربل بعيني"، كما ورد في بطاقة الدعوة.
إشترك في الندوة كل من الدكتورة سمر العطّار، الأستاذ فؤاد نمّور، الصحفي بطرس عنداري، الأستاذ إيلي ناصيف، رئيس الرابطة الأستاذ كامل المر، وعرّيف الندوة الشاعر شوقي مسلماني.
في هذه الندوة ألقى شربل بعيني قنبلته الشعريّة (لعنة اللـه علينا)، فأحدثت هزّة أدبيّة وسياسية لـم تحدث من قبل في هذا المهجر البعيد. كيف لا، وقد ثار بها على الجميع دون استثناء.. وطالبهم بإيقاف المجازر البشريّة التي يقترفونها بحق الأبرياء في لبنان، وفلسطين، والعديد من الدول العربية.
ولنعرف ماذا حدث بعد الندوة، سأنقل إليكم ما كتبه الأستاذ بطرس عنداري (أبو زياد) في النهار، في زاويته الشهيرة (كي لا ننسى) بتاريخ 25 أيلول 1986، تحت عنوان: "شربل بعيني والتعقّل والهوس":
"من مشاكلنا الحضارية أننا شعب فوّار العاطفة، قريب من الضحك والبكاء والغضب والتسامح في لحظة واحدة. وهذه صفات إنفعاليّة تتركنا دائماً في السجلاّت المتدنيّة للمدنيّة والوعي.
لقد أقيمت ندوة ثقافيّة حول إنتاج الشاعر الشاب شربل بعيني، وما قيل فيها كان واضحاً، وبلغة عربية مفهومة المعاني والعبارات.
ولكن الشارع الذي لـم يحضر الندوة، أو حضر بعضه، ولـم يشأ أن يفهم ما قيل، خلق نوعاً من التشويش الواسع النطاق، قلّما وصل إلى هذا الحد سابقاً.
الإشاعات تملأ أوساط الجالية عن حملة تبخير ومديح لشربل بعيني، وعن إعطائه مركزاً شعرياً أكثر ممّا يستحق. وإشاعات أخرى تقول إن المشاركين بالندوة ـ أو بعضهم ـ تحاملوا على شربل بعيني، وأقوال أخرى حول عدم أهميّة الندوة وشاعرها والمشاركين فيها.
وقد وجّه الأستاذ جبران مخايل رسالة إلى رئيس تحرير هذه الصحيفة يقول في صدرها: هناك لغط قويّ في أوساط الجالية بأنّك شتمت الشاعر شربل بعيني، واتهمته بنقل قصائده عن نزار قبّاني حرفاً حرفاً. ويقول جبران مخايل أيضاً: من الأقوال التي سمعتها أيضاً، أن شربل ألقى قصيدة شتم فيها الجميع، بما فيها المقاومة اللبنانية البطلة.
إن كلام السيّد جبران مخايل تعبير صادق عن موجة التلفيق، ولكنّه يبرّىء نفسه حين يقول: الخطيئة خطيئتي لأنني لـم أحضر الندوة.
إننا لا نستغرب موجة الإشاعات هذه في جالية ترى الأمور الثقافيّة والأدبيّة جديدة عليها، وترى قضيّة النقد الأدبي حالة مثيرة تعني الشتم أو المديح فقط، وهذا بسبب محدوديّة مستوى الوعي في أوساطنا.
إن ندوة رابطة إحياء التراث العربي حول إنتاج شربل بعيني، كانت ناجحة وقيّمة بمواضيعها، وخاصّة الموضوعين اللذين قدّما من قبل الدكتورة سمر العطّار والأستاذ كامل المر.
لقد أعطي شربل بعيني حقّه: شاعر أصيل قادر على التحليق وتصوير المشاعر بالصناعتين الزجليّة والفصحى.
.. وإذا قال أحدهم أن الشاعر تأثّر بنزار قبّاني في شعره المبكر، الذي نظمه في سنّ المراهقة، فهذا ليس بعيب!.. وإذا قيل إن الشاعر قادر على إنتاج القصيدة المتكاملة، أو أن بعض قصائده تمتاز عن الأخرى، فهذا مديح لشاعريته وليس شتماً. وإذا قيل إن بعض أوزانه الشعريّة تحتاج إلى صياغة أفضل، فهذه قالها أحمد شوقي للأخطل الصغير والياس أبي شبكة ولـم يعتبر قوله شتماً!.
فالذين يريدون الإطلاع على ما قيل، عليهم الحصول على نصّ الكلمات من مراجعها، وليس من إشاعات الشارع. ونقول للأستاذ الأديب جبران مخايل: إن تساؤلك حول تلاعب الصحف المهجريّة بقرّائها، يجب أن يتحوّل من تساؤل إلى اتهام، لأنه واقع مؤلـم.
إن التعقّل والهوس أمامنا، وعلينا أن نختار بينهما".
هذا ما كتبه بطرس عنداري عام 1986، وهذا ما يحدث اليوم، وسيحدث غداً، لأننا لـم نميّز بعد بين التعقّل والهوس، ولـم نفاضل بينهما، وهذا ما يرجعنا إلى الوراء مئات السنين، بينما الأمـم الأخرى في تقدّم مستمر، ومن يدري فقد تستوطن المريخ، بينما نحن لـم نعتد بعد على تقبّل الآخر بقلب منفتح، وتطلّع إنساني.
وفي جريدة النهضة، نشر الشاعر شوقي مسلماني، بتاريخ 25 أيلول 1986، ردّه على منتقدي شربل بعيني، غير عابىء بلومة لائـم. وإليكم بعض ما كتب:
"بعد قصيدته (لعنة اللـه علينا)، وبعد ندوة رابطة إحياء التراث العربي الأخيرة، تضاربت الأقوال في شعر شربل بعيني، وفي مصادره ومراميه. فقائل بيمنيّته وانهزاميّته، وقائل بيساريّته وثوريّته، وقائل بعدميّته وفوضويّته، وإلى ما شاكل.
الثابت الوحيد، وهو لا شكّ فيه، أن الحرب قد أدمت الشاعر بويلاتها وأهوالها، وربما أصابت به الناس في عيالهم، وأرزاقهم، وأمنهم، وسلامهم، ووحدة وطنهم. ثـم ان الحرب قد أتت أيضاً على ما تبقّى من سعادة بني وطنه، ورغد عيشهم من جهة، وأوصدت الأبواب كليّاً بوجه المغتربين منهم، الذين يودّون العودة حنيناً إلى تراب البلاد، بعد هجرة وتهجير قسريين. والحال هذه، فإن الشاعر أراد أن يكون مرآة عاكسة وحسب لآلام هذا الشعب وعذاباته، فما كان منه إلاّ أن صرخ، وأول ما صرخ: أوقفوا هذه الحرب. وما كان منه إلاّ أن لعن، وأول ما لعن الحرب. وما كان منه إلاّ أن استنكر بشدة، وأول ما استنكر أن يقسّم الوطن ويجزّأ بين قبيلتين أو أكثر.
من هذه الناحية، فإن غضبة شربل بعيني، ودعوته للكف عن الحرب والقتال، غضبة ودعوة إيجابيتان، فليس منّا من دعا إلى الحرب واحتكم للعنف، وليس منّا من ناصر شريعة الغاب، وليس منّا من لا يسعى لوقف هذه المجزرة، بعدما تفاقمت نيران الحرب، وتحوّلت في اتجاهاتها لتصير حرباً طائفيّة بامتياز.."
وأخيراً ينهي شوقي مقاله بهذه الفقرة الجريئة:
"في هذه العجالة، يمكن الردّ على منتقدي بعيني العفويين، ويمكن القول بضرورة الأخذ بيده، فيرقى بشعره شكلاً ومضموناً، ومساعدته على تمزيق الغيوم الكثيرة المتلبّدة حول عالمه الخاص، ورائدنا بذلك قولنا: أن نضيء شمعة خير من أن نلعن الظلام".
جريدة صدى لبنان الصادرة في السادس عشر من أيلول 1986، نشرت مقالاً تحت هذا العنوان الساخر: "ندوة نقّاديّة حول نتاج شربل بعيني"، ومنه أختار:
"مجال النقد كان واسعاً أمام الخطباء، كون الموضوع نتاج شربل بعيني، من البداية حتى اليوم، فراح كل منهم ينزله على مشرحة أهوائه الخاصّة، وعقائده القوميّة، ونظريّاته الجماهيريّة، ناهيك عن العقد النفسيّة أيضاً، فغاب عن الندوة جو النقد الشعري الذي توخيناه.
حبّذا لو تعمد الرابطة، في المستقبل، إلى تحديد مواضيع النقد ومدّتها، فتحصر الندوة في كتاب، أو قصيدة، أو بيت واحد من الشعر. وحبّذا، مرّة أخرى، لو يدور البحث في ميزة معيّنة من مزايا شعر شربل بعيني، كاختيار المفردة، وسبك العبارة، وحبك الصورة، وشقع القصيدة، واستلهام الفكرة، وبدع الجمالية في الشعر، أو الثورة فيه، أو الإقذاع والبشاعة.
إنه لإجرام أن يقاس شربل بعيني اليوم، من خلال نتاج أعطاه قبل سبعة عشر عاماً. فالشاعر إنسان يتطوّر، وعلى النقّاد تقييم آخر قصائده، إذا ما شاؤوا لهذا الشعر شأواً، أو للشاعر تحليقاً. فقد آن الأوان لشربل أن يكتب للنوع لا للكميّة، وما قصائده التي ألقاها في الندوة إلاّ خير دليل على نضوج خامته الشعريّة. فلنشجّعه ليكمل من هذا المنطلق".
لقد كان شربل بعيني صادقاً بكل ما كتب، فلا اليمين اللبناني أخافه ولا اليسار، فلقد ثار عليه الإثنان معاً، وبقي على موقفه، واضعاً نصب عينيه مصلحة أبناء وطنه لبنان وأمّته العربيّة. وهذا ما أدركته مجلّة النهار العربي والدولي، فلقد أعطت ديوان مجانين صفحتين كاملتين، نشرت فيهما مقدّمة الأستاذ كامل المر، وأشد القصائد مرارة في الديوان، كقصيدة "قفا لبنان"، التي يقول فيها شربل:
.. وكانوا يقولوا بلاد الخير
هيّي بلادي!!
بلاد النسمه.. بلاد الطّير
وجو الهادي
.. وكانوا يقولوا إنّو بلادي
قطعة سما
أللـه.. لولا وفا جدودي
ما تقاسـما!!
وضلّوا يْغَنُّوا رْوابِيها
تا صارت حلم
وبالآخر شكّوا فيها
رايات الدّم!!
والناس الـ ماتوا صاروا
حكايات كبار
يحكيها الجار لجارو
عن "شعب حمار"
رضي يحرق دياروا
بقلب غضبان
ورضي يفوّت مسمارو
بقفا لبنان!!
وكان تعليق النهار العربي والدولي على قصائد شربل الناريّة، عكس التعليقات التي سمعها في أستراليا، فلقد كتبت في عددها الصادر بتاريخ 9 حزيران 1986، ما يلي:
"في سيدني أستراليا، صدرت الطبعة الثانية من ديوان مجانين بالعاميّة للشاعر شربل بعيني، مع مقدّمة لكامل المر، وكلمة على الغلاف لنعيم خوري.
وقبل أن ننقل هنا المقدّمة وبعض القصائد، نشير إلى نفحة الصدق القوي التي تهدر في الديوان، وهو من الشعر المتألّـم لما حلّ بلبنان، من غير أن (يصطفّ) مع فريق ضد فريق، بل هو ينطلق في معاناته وفي تعبيره معاً، من كون ما حلّ بالوطن حرباً على الجميع، وشرّاً ضدّ الجميع، ومن كون الإنسان هو الغاية، لا دينه ولا حزبه".
صدق شربل بعيني القوي مع نفسه وقرّائه، هو الذي أوصله عام 2000، ليصبح أوّل أمير للأدب في عالـم الإنتشار اللبناني.
أخبرتكم عن الضجيج الذي سبّبته عام 1986، ندوة رابطة إحياء التراث العربي حول نتاج الشاعر شربل بعيني، وما أن أطلعكم على ما قيل في الندوة حتى تدركوا أن الضجيج الذي أثير سببه أشعار شربل، وليس ما قاله المتكلّمون، إذ أنّهم أشادوا بشعره كما لـم يشد أحدٌ من قبل.
لنبدأ أوّلاً بعريف الندوة الشاعر شوقي مسلماني، ولنختر من تقديمه للمتكلمين باقة من أزهار كلامه، فلقد قال عند تقديمه للإستاذ إيلي ناصيف، الذي ألقى كلمة الرابطة:
"وإذ يكون محور ندوة اليوم شاعر معتبر، طالما قرأتـم أشعاره في الصحف المحليّة، فإن رابطة إحياء التراث العربي يهمّها أن تؤكّد على شاعريّة شربل بعيني، ورهافة حسّه، وموهبته الأصيلة، وقدرته الكبيرة على استنطاق واسترجاع الماضي صوراً حيّة تحاكي الحاضر، فتودعه كنوزها وحكمتها وعبرتها، كما تؤكد على أن الشاعر يعيش حقّاً حاضره بالتمام، وحاضر بلاده كلها، ومأساة أبناء جلدته المتعاقبة منذ العام 1975 حتى اللحظة".
قبل أن أكمل رحلتي مع كلمات شوقي، دعوني أتساءل: لماذا كل هذا التأكيد من الرابطة على شاعريّة شربل بعيني، الذي لـم يكن قد انتسب إليها بعد، لو لـم تكن تدري أن هناك من يحاول أن يقلّل من شاعريته، بغية إطفاء وهج قصائده قبل وصولها إلى أسماع الناس، فلا اليمين اللبناني ولا اليسار كانا يحبان أن يسمعا شربل بعيني وهو يصرخ بأعلى صوته كلمات هذه القصيدة التي لحنها وغنّاها الفنان المهجري سمير بدر:
أنا ما بفهم يمين
أنا ما بفهم يسار
أنا بفهم إنّو النّار
لازم توقف مهما صار
بحيث الـ عم بيموتوا هيك
ما انوجدوا بخاتـم لبّيك
ولا بقنديل علاء الدين
هودي أهلي الِمحبّين
هودي ربيوا جار وجار
يعني مهما الدولاب دار
وحكيوا وفبركوا أخبار
رح يبقوا لبنانيين
رح يبقوا لبنانيين
رح يبقوا لبنانيين
وقد أثبتت الأيّام أن شربل بعيني كان على حقّ، فلقد انتهت الحرب اللبنانيّة اللعينة، وبقي اللبنانيون لبنانيين، كما أطلقها مثلثّة، وكما يجب أن يكونوا: أهلاً وأحباباً.
ومن تقديم شوقي للدكتورة سمر العطار أختار:
"لسنا نقرظ شربلاً لو قدّمناه على شعراء المهجر عندنا، وهو الأحقّ بالتقديم، لأنه المرهف بأحاسيسه فعلاً، ولأنه الإنسان الذي يواكب مأساة شعبه فيبكي لأحزانه، ويثور ثورة كريم على جلاّديه، ويقول كلمته بأعلى صوته، فلا يخاف لائـماً، ولا يخاف فريسيّاً، ولا يخاف عسكراً، ولا يخاف إلاّ أن يقول بنو وطنه: كنّا نموت جوعاً وويلاً وظلماً، وكان شربل يغضّ طرفاً، وكان مساوماً، وكان صامتاً.
كلمة نقولها، وما تفي شاعر الغربة حقّه، ولكن حقّه علينا أن نقول في شعره ما يجب أن يقال لا ذماً ولا مديحاً، ولكن قولاً نقدّاً يصوّب بوصلته، ويوجّه سيره في الإتجاه الصحيح".
هذا ما أراده شوقي المسلماني، وهذا ما حصل فعلاً، فلقد ابتعد جميع المتكلّمين عن الذمّ والمديح، وساروا في طريق الحقّ، رغم تشعّباتها ومشاقها، ليهدوا أدبنا المهجري أجمل ندوة أدبيّة على الإطلاق.. وليقدّموا شربلاً، كما قدّمه هو، على غيره من شعراء المهجر عندنا.
والآن، ألا تقولون قولي أن "تقديم" المسلماني لشربل، منذ سنوات طويلة، على غيره من الشعراء، "وهو الأحقّ بالتقديم"، يعكس الصورة النقيّة الجليّة لصوابيّة اختياره أميراً للأدب في كافّة بلدان الإنتشار اللبناني، لعام 2000، من قبل المجلس القاري للجامعة اللبنانيّة الثقافيّة في العالـم ـ قارة أميركا الشماليّة. بلى واللـه!..
المربّي فؤاد نمّور، رحمه اللـه، اعتبر أن موضوع الندوة حسّاس شائك بالنسبة له، "لأن كتاب شربل مجانين كتاب حديث، بل هو، على ما أظن، أحدث كتبه، ولذلك فإن الأقلام لـم تتناوله كما يجب، وإن قرأت تقريظاً له في النهار الدولي مؤخّراً، ولـم تتداوله الأيدي كذلك، أي أنه لـم يُقرأ كثيراً بعد.
ومنها أن الشاعر شربل بعيني، صاحب الكتاب، صديقي، فإن أنا ركبت رأسي ـ كما يقولون ـ وقسوت في النقد، قد أفقد، لا سمح اللـه، صداقته، كما فقدت صداقة غيره، وإن أنا أنصفته وقلت في الكتاب ما يجب أن يقال، كانت شهادتي، بسبب صداقتي، مجروحة، سيّما وأنه احتاط للأمر فرشاني سلفاً، وأهداني أربعة كتب من كتبه أعتزّ كثيراً باقتنائها. لكنني، بالرغم من كل شيء، قبلت الإشتراك في الندوة على أن أقول رأيي سلباً أو إيجاباً، وسيّان عندي غمزت شهادتي أم لـم تغمز".
بعد هذه المقدّمة المرعبة جداً، التي يهدّد بها ويتوعّد، نجد أن فؤاداً، وبعد دراسته الإيجابيّة جداً جداً لـ مجانين، لـم يقصد بتهديده هذا صديقه شربل بعيني، بل أولئك الذين يتهامسون في الخفاء، ويخطّطون لإفشال الندوة، بعد أن لقّبهم شربل بالمجانين، وعرّاهـم من أوراق توتهم، وكشفهم على حقيقتهم أمام أعين الناس الطيّبين الذين يتلاعبون بهم، كما تتلاعب الريح بوريقات خريفيّة اقتُلعت من شجرتها الأم، وتطايرت في بلدان اللـه الواسعة. وهذا ما اعترف به فؤاد في الندوة حين قال:
"لقد وصل به الإدراك مرحلة ما عاد يرى فيها غير أوضاع مترديّة منهارة، يأس ممزوج بالحسرة والسخرية، جعل الشاعر يدعو قومه دعوة صريحة إلى الجنون. كما حمّل الزعماء، على اختلاف نحلهم ومعتقداتهم، مغبّة ما آل إليه الوطن الجريح بسبب أنانيّاتهم وجشعهم اللا محدود، ولذا لـم يجد بدّاً ولا مفرّاً من اتهامهم بالخيانة.
إن شربل في مجانين قد قدّم لنا صوراً للضياع والفراغ والظلم وخيبة الأمل والسخرية، وراح من خلال هذه الصور جميعها، يسرد قصّة المأساة اللبنانيّة، مشيراً إلى نواحي الضعف وقصور الوعي والإنسياق وراء الزعامات الباطلة المضلّلة.
وأخيراً، فإن شربل شاعر ثائر متمرّد جريء، يتفجّر شعره بطاقات جديدة لـم نألفها من قبل، وشعره معاناة شخصيّة صادقة، وهذا ما يعطيه زخماً معبّراً أجمل تعبير. وفّق اللـه شربلاً إنساناً وشاعراً، والشعر نعمة لا يُعطاها إلاّ من يستحقّها".
وأعتقد أن المربّي المرحوم فؤاد نمّور، بكلامه هذا، قد قال بالزعامات الباطلة المضلّلة وبأذنابها في أستراليا، ما لـم يقله شربل بعيني في ديوانه مجانين، لا بل أعطاه الضوء الأخضر ليقول فيها ما لـم يقله المتنبي في كافور الأخشيدي.
الأستاذ بطرس عنداري اعترف في بداية كلامه أن الوقت لـم يسمح له للقيام بجولة شاملة على كلّ ما كتب الشاعر شربل بعيني، "ولكنني سأحاول، في هذه الأمسيّة الممتعة، أن ألقي نظرة، وأقدّم رأياً بإنتاج هذا الشاعر الشاب، صاحب القلـم الدفّاق المتواصل العطاء".
ولكي لا يطيل الشرح كثيراً، نرى أن العنداري أعطى شهادة مبكرة صادقة بشربل بعيني، لـم يعطها أحد من قبل، حين قال في بداية دراسته:
"لقد أصبح شربل بعيني ظاهرة مميّزة في مغتربنا بتعدّد دواوينه، في جالية كانت، حتى الأمس القريب، قاحلة أدبيّاً وفكريّاً.
في البداية، كنت أظنّ أن شربل بعيني شاعر عدديّ بين مجموعة كبيرة من ناظمي الشعر الشعبي، الذي نعرفه باسم الزجل اللبناني، ومع مرّ السنين، ومواكبة إنتاجه، تعرّفنا عليه وعلى دنياه الشعريّة الواسعة الشفّافة الضاحكة أحياناً والواجمة الجامدة أحياناً أخرى".
ورغـم استشهاد بطرس ببعض قصائد شربل بعيني (الميكانيكيّة)، على حد تعبيره، أي التي كتبها وهو في حالة انسلاخ عن شاعريته وأحاسيسه كشاعر، نجده يبرّر تركيب شربل لبعض قصائده الميكانيكيّة، بكلمات واعية ومتفهّمة وصادقة أيضاً:
"وقلّما نجد شاعراً، قديماً وحديثاً، إلاّ وتعرّفنا عنده على قصائد مركّبة ومطرّزة ومزخرفة، وخاصّة في أشعارنا العموديّة ذات النبرة الموسيقيّة المثيرة".
وطالما أن شربلنا واحد من هؤلاء الشعراء، القدماء والمخضرمين والجدد، الذين تكلّم عنهم بطرس، فلا عجب إذا ركّب قصيدة أو طرّزها أو زخرفها، ألـم يقل أحدهم: يحقّ للشاعر ما لا يحق لغيره؟.. ولكن، يبقى شربل، بنظر بطرس، شاعراً خارج العدديّة في مغتربنا هذا، وهذه شهادة تاريخيّة لـم يحصل عليها شاعر مهجري من قبل.
رئيس رابطة إحياء التراث العربي الأستاذ كامل المر، كانت دراسته طويلة شاملة، لأن الدراسة، كما قال، لا بد أن تحصي على الأديب أو الشاعر أنفاسه. فلنقرأ ونحكم.
من ديوان مراهقة، باكورة أعمال شربل، إنتقى كامل هذه الأبيات:
عوينات سود كبار
خفيت عيون كبار
غطّت مساحه وصار
وجّك عتم ونهار
وراح يفسّر عبارة (عتم ونهار) على أنها "تشبيه رائع بلغة سهلة، لا أظن أن أحداً سبقه لمثل هذا التشبيه إلاّ الشاعر الذي اختصر آيات الحسن ببيت قال فيه:
قدّ وشعر وخدّ
غصن وليل وورد".
وبعد أن يغوص كامل في معظم مؤلفّات شربل، ويصطاد من دررها الكثير الكثير، يصل إلى نتيجتين، الأولى تتعلّق بنثره:
"نثر الشاعر شربل بعيني، نثر ساخر جميل، ما أحوج الأدب العربي المعاصر إلى مثل سخريته".
والثانية تتعلّق بشعره:
" شعر شربل بعيني، أيّها السيّدات والسّادة، شعر معمّد بالألـم، لكنّه متفائل. شعر يؤمن بمن كُتب له، مؤمن بالشعب. ولعلّ أهمّ كتب شربل بعيني في الشعر العامي مجانين، وفي الشعر الفصيح كيف أينعت السنابل؟، الذي يعدّه للطبع الآن.
أمّا في الشعر العامّي، فللشاعر مدرسة خاصّة به، تمرّدت تمرداً مستساغاً مستحبّاً على ما هو معروف من أوزان هذا الشعر، وسيكون لها، ولا شك، أثرها في تطوير هذا الفن الشعري، الذي لا يقل أهميّة عن الشعر الفصيح، والمواضيع الأدبية الأخرى، على حد تعبير الأديبة المهجريّة أنجال عون ـ البرازيل، وإن لـم يكن بنفس الشمول. وإذا كان للشاعر شربل بعيني مدرسته الخاصّة في الشعر العامّي، فإننا نتوخّى أن تكون له مدرسته الخاصّة أيضاً في الشعر الفصيح، فهل نرى تباشير مثل هذه المدرسة في ديوان كيف أينعت السنابل؟".
ورغم أن المرّ قد أعلن "أن أسلوب المدرسة القبّانيّة واضح البصمات على شعر البعيني الفصيح"، إلاّ أنه استشفّ، في نفس الوقت، "بذور مدرسة قائمة بذاتها".
الدكتورة سمر العطّار أعطت النقد الإغترابي دراسة أكاديميّة، أقلّ ما يقال فيها أنها رائعة، فلقد تكلّمت عن المرأة والحرب في المجتمع الأبّوي، من خلال ملاحظات عن أعمال شربل بعيني.
وبما أنّه من الصعب اقتطاع فقرة واحدة من دراسة العطّار، دون أن يُشوّه محتواها، أو أن يُهدم بنيانها المتكامل، أطلب المعذرة سلفاً إذا أخفقت في توصيل رسالتها.
لقد أخبرتنا، في دراستها، أن "فكرة القتل لـم تروع الإنسان الجاهلي"، وأن معظم الشعراء العرب في الجاهلية بكوا أجدادهم، وآباءهم وإخوتهم، "وقلّما نجد وصفاً لإنسان يبكي على أخيه الإنسان". وأن زهير بن أبي سلمى هو الوحيد الذي شذّ عن القاعدة، ولـم يبكِ لفقد أبيه، أو أخيه، أو قريبه، "بل بكى لغباوة الإنسان الذي يوقد نار الحرب، جالباً الضرر على نفسه وعلى أبنائه".
كما أخبرتنا أن زهيراً مدح (الحارث بن عوف) لأنه أصلح بين عبس وذبيان، واحتمل ديّات القتلى في ماله، "وكان من الأحرى بالشاعر لو مدح بهيسة بنت أوس زوجة الحارث، والسبب الرئيسي في إيقاف الحرب الدامية، كما تقول الروايات".
ولهذا اعتبرت العطّار أن زهير بن أبي سلمى لـم يكن أوسع أفقاً من زملائه الشعراء، لأنه خصّ الرجل بمديحه، وتناسى (بهيسة)، تلك المرأة التي قالت له:
ـ أتفرغ يا حارث بن عوف لنكاح النساء والعرب تقتل بعضها!
وكانت بهيسة قد تزوجت الحارث، ولكنها رفضت أن تنام معه قبل أن يوقف الحرب بين عبس وذبيان.
وبما أن شربل بعيني قد خصّ هذه المرأة العربية البطلة بقصيدة أسماها: صدّقيني يا بهيسة، فلقد اعترفت الدكتورة العطّار أن شربل قد سبق الآخرين في مديح بهيسة، فقالت:
"واليوم، بعد أربعة عشر قرناً يأتي شربل البعيني، لا كناطق باسم قبيلة، كما كان يفعل الشاعر الجاهلي، بل كصوت متفرّد، ليرسم لوحة مرعبة عن الحرب القبليّة في لبنان، وليبعث بهيسة حيّة في أذهاننا: بهيسة التي لـم يكتب عنها الشعراء العرب، قدماء أم محدثون، بالرغم من أنها كانت مفتاح السلام.
الحرب شيء مرعب عند البعيني، تماماً كما كانت عند زهير بن أبي سلمى، وقتل الإنسان للإنسان لا يجلب إلاّ مزيداً من القتل، وليس هناك من فارق بين مقتل حبيب أو عدو، وليس هناك من داعٍ لرثاء فلان، أو للتفاخر بقتل فلان. فالبعيني رفض دور الشاعر القبلي ـ ذاك الدور الذي يفرض عليه أن يبكي لقتل أقربائه، وأحبابه، وبني عشيرته، وأن يفرح لقتل أعدائه ـ واختار أن يكون إنساناً يخدم مصالح الإنسان. ولقد دفعته رغبته بتغيير المفاهيم القبليّة التي تحض على الغزو والإنتقام، إلى استخدام لهجة (القبائل) اللبنانيّة المتحاربة في وصف أهوال الحرب، وضرورة إيقافها. فاللهجة العاميّة قد تصيب الهدف أكثر من اللغة الكلاسيكيّة، وقد تنتشر انتشار النار بين فئات المتقاتلين، ففيها، قبل كل شيء، يتكلّمون، وفيها يحبّون ويكرهون، وفيها يَقتُلون ويُقتَلون".
وبعد أن حلّلت الدكتورة العطّار عالـم البعيني من خلال ديوان مجانين، توصّلت إلى هذه النتيجة:
"الرجل في عالـم البعيني مجنون وقاتل (باستثناء خالد كحّول الجندي الذي رفض أن يسلّم رفقاءه المسيحيين للدوريّة المسلّحة، التي استوقفتهم وهم في طريقهم إلى مقرّ القيادة العسكريّة، وقال: نحن جنود لبنان، وليس بيننا مسلم أو مسيحي، فإذا أردتـم قتلهم فاقتلونا جميعاً). خالد كحّول هو صوت متفرّد كصوت الشاعر في مجانين. أما الرجال الآخرون الذين نلقاهم فهم (دياب الشعب)، كما يسمّيهم البعيني، ولقد صمّموا على أن يحرقوا كل شيء، وأن يقتلوا كل من يقف في طريقهم".
وفي ختام دراستها، أعلنت الدكتورة سمر العطّار أن "صرخة شربل البعيني لبهيسة بأن تنبعث من قبرها من جديد، لَتأكيد على أن المرأة هي أساس المجتمع في عرف الشاعر، وتعبير ضمني على رغبته الملّحة بأن يصبح النموذج الجاهلي نموذجاً معاصراً حقيقيّاً".
وبعد كل هذه الإستشهادات التي اخترتها لكم من كلمات المشاركين في الندوة، نجد أن كل المتكلمين قد أعطوا شربل بعيني حقّه كشاعر، وأن قصائده الناريّة وحدها، هي التي حرّكت الجماجم الفارغة في جاليتنا، وأحدثت كل ذلك الضجيج؟
**