الشاعر الإصلاحي

المطران المرحوم عبده خليفة كان من أهم الشخصيات الدينيّة والأدبيّة التي التقيتها في منزل شربل بعيني، وأعجبت بها أشد الإعجاب، نظراً لحنكته في تسيير أمور رعيّته، ولرجوليّته في إحقاق الحقّ وتنفيذ القانون الكنسي، وإن أدى ذلك إلى تعرّضه لهجوم وحشي كما حصل له مع أحد المهووسين في الجالية. وأذكر أنني كنت من أوائل الذين هنأوه بالسلامة، ومن أشد المدافعين عن مواقفه الصائبة في جريدتي صوت المغترب، فتوطدت بيني وبينه أواصر صداقة متينة، اكتنفها الإعجاب والإحترام.
ولقد ترأس سيادته، أو بالأحرى، أسّس أول أبرشية مارونيّة في أستراليا ونيوزيلندة، بعد أن عينه قداسة البابا بولس السادس أسقفاً عليها عام 1973، فحقّق الكثير من المشاريع الكنسيّة، وأغنى المكتبة المهجريّة بالكثير من المؤلفات الدينيّة والفلسفيّة والسياسيّة، أشهرها كتاب مريم العذراء وقضايا العصر.
ومنذ وصوله إلى أستراليا، حتى يوم مغادرته لها عام 1991، وإعجاب شربل بعيني بالمطران خليفة لـم يتغيّر، ولـم يتبدّل كطقس أستراليا، بل بقي مؤمناً برسالة الراعي ومشيداً بها. وفي نفس الوقت كان سيادته معجباً أيضاً بأدب شربل وحاضناً له، وخير دليل على ذلك مقطع من قصيدة نشرها شربل في جريدة صوت المغترب ، العدد 830، الصادر في 14 شباط 1985، يمتدح بها كتاب المطران مريم العذراء وقضايا العصر:
عبده خليفه وأمنا مريم
تْوحّدوا بالحُبّ
وخلّوا السّما تْشتّي نِعَمْ
عَ كلّ نفسْ وْقَلْب
وْمَسْحُوا الحياةْ من الأَلَـم
وْزرعوا كَلام الربّ
اللّي تْجَسَّد بْبَاقِة حِكَمْ
مْنِ الصّعب يِكتبْها قَلَم
إلاّ ما يِمْشي الْجلْجلِه
وِيْدُوق طَعْم الصّلب
وفي الرابع والعشرين من شهر نيسان 1985، أرسل لشربل هذه الرسالة المفعمة بالصدق، والمحاكة بحروف من ذهب:
"حضرة الفاضل الأستاذ شربل بعيني المحترم
سلاماً ودعاء، أما بعد..
لقد استلمنا هديّتك الحلوة، كتابك من خزانة شربل بعيني. طالعناه، وما أوقفنا مليّاً هذه المخيّلة الجامحة التي تقودك إلى وضع صور وتصاوير يلذ بها القارىء، ويروح معك في عالـم تخلقه لنفسك، عالـم تريده أكثر عدالة ومحبّة بين بني البشر. وكم نجد في هذه الصور من الحزن والأسى أمام عالـم داس المظلوم، ولـم يأبه للفقير، بينما الغني ينعم بماله وإن لـم ينعم بأخلاقه، والفقير يذوق الأمرّين ويصمت مفضّلاً كتمان ألمه في ثورة داخليّة تتفجّر آهات وأنيناً.
جمعت أفكارك حول الإنسان، وعبّرت عن حبّك له الذي لن يكون صحيحاً بدون حبّك للخالق عزّ وجلّ، وثابرت على التطلّع إلى آفاق أكثر إنسانيّة من عالـمنا القائم الذي هجر اللـه والقيم، وأصبح سجناً للكثيرين.
إنما في بعض مقاطع كتابك أغلاط لا بدّ من تصحيحها، تقول في المزمور الأول من (مزامير ميلاديّة) ما يلي: (من منكم بدون خطيئة فليرمني بحجر، هكذا قال يسوع). والصحيح: فليرمها. وأود أن تكون غلطة مطبعيّة فقط.. وغلطات أخرى.
بارك اللـه انتاجك الأدبي الذي عليه أن يروح أكثر فأكثر إلى تعمّق روحي وفلسفي في مطالعات عديدة لست بغنى عنها، فيصبح شعرك حاملاً خبرة شخصيّة، وتطلّعاً وجوديّاً أعمق وأنجع".
ألـم أقل لكم إن رسالته مفعمة بالصدق، فهو لا يريد أن يجامل صديقه، ولا أن يتقرّب منه بكلمات لا يرضى هو عنها، فأطلعه في رسالته على بعض الأخطاء، وطالبه بتصحيحها، وعندما أخبره شربل أنه تلاعب بالكلمات، ونقلها من "فليرمها" إلى "فليرمني" كي يجعلها أكثر التصاقاً به وبشعره، عملاً بالمثل القائل: يحقّ للشاعر ما لا يحقّ لغيره. صاح، رحمه اللـه، وهو يقهقه:
ـ كي يحقّ لك يا شربل ما لا يحقّ لغيرك، عليك أن تترك كلام السيّد المسيح كما هو.. أفهمت؟!
وعندما أهداه شربل ديوانه أحباب، أرسل له المطران خليفة في الأول من أيار 1990هذه الرسالة المقتضبة:
"حضرة ولدنا العزيز الشاعر شربل بعيني المحترم
بعد إهدائك البركة الإلهيّة عربون محبّتنا وتقديرنا لك: لقد استلمنا ديوانك الجديد أحباب. نشكر لك تلطّفك بإرساله إلينا. سنطالعه بانتباه، ونطلب إليه تعالى أن يبقي القريحة فيّاضة والإستمتاع للقارىء على تجدّد مستمرّ. باركك اللـه وغمرك بخيوره ونعمه".
وأعتقد أن سيادته لـم يطلق لقلمه العنان في هذه الرسالة، وهو من هو في عالـم الكلمة، لسبب واحد، هو أن شربل مدحه بعدّة قصائد في أحباب، وأي مديح للكتاب قد يعتبر بمثابة تسديد دين، وهذا ما يرفضه رفضاً باتاً وقاطعاً.
ولو لـم يكن شربل بعيني هو الذي ألّف ديوان أللـه ونقطة زيت، وهو الّذي طلب من سيادته أن يقدّمه للقارىء، لأبى مطراننا أن يكتب حرفاً واحداً عن ديوان يتطاول فيه الشاعر على رجال الدين بشكل سافر، لـم يسبق له مثيل من قبل، ويكفي أن تقرأوا هذا البيت المشتعل من الشعر، الذي يطلب به من اللـه أن يحرق كل رجال الدين بدون أدنى شفقة، لتعرفوا ماذا أقصد:
حرقهُن كلّنْ من دون شَفْقَه
كلُّن شَكّوا الحربِه بْقَلْبَكْ
ومع ذلك كتب سيادته مقدّمة للديوان بلغ عدد صفحاتها 28 صفحة، اعتبرت بحقّ تحفة أدبيّة رائعة. ورغـم مرضه وشيخوخته في لبنان، لـم ينسَ تلك المقدّمة عندما قابله أحد الصحفيين اللبنانيين، وسأله عن الأدب الأسترالي والأدب اللبناني في أستراليا، فأجاب، رحمه اللـه:
"لسوء الحظّ، أدباء أستراليا لـم يتكلّم أحد عنهم. هناك الشاعر البعيني، شاعر من زحلة، قدّمته في أحد كتبه بمقدّمة مؤلّفة من عشرين صفحة".
المقدّمة، كما ذكرت سابقاً، مؤلّفة من 28 صفحة، كما أن الشاعر البعيني هو من مجدليّا الشماليّة، وليس من زحلة كما قال سيادته في الحديث الصحفي الذي أعادت نشره جريدة البيرق المهجرية في 21 تشرين الثاني 1992.
ونظراً لطول مقدّمة ديوان أللـه ونقطة زيت، سأكتفي فقط ببعض المختارات، رغم الإجحاف الذي سيلحق بها، كونها صيغة بتأنٍ بالغ، بلغ حدّ الجودة.
وكما قلت سابقاً، فقصائد الديوان تشتم كلّ رجال الدين، بما فيهم كاتب المقدّمة، لذلك تمعّنوا كثيراً بكلمات سيادته الذكيّة، ولنقرأ معاً:
"حدس الشاعر، إذا كان نقاداً مصلحاً اجتماعيّاً، وحسّه الشعري المرهف الذي لا يغيب عنه خلل إلاّ ويشخّصه بغية إصلاحه، ولا يغيب عنه جمال إلاّ ويتغنّى به بغية إعطائه مثلاّ للبناء، ورؤياه الصائبة والمخوفة في آن، كل ذلك سيف على رؤوس الدجّالين ومروّجي الغشّ والتزييف من أيّ صوب أتوا وإلى أيّة فئة انتموا. فالإصلاح شامل، كأنه رادار يمسك دون تعب بالموجود، فيشرّحه بعمليّة جراحيّة مؤلمة للموت أو للخلاص.
الشاعر المصلح الاجتماعي يشعر في ذاتيته بزخم وكأنه أمواج بحر عتيّة لا ترحم ولا تحابي.
صدق الشاعر هذا مع نفسه هو صدقه إيّاه مع الآخرين. لا يهاب ملامة، ولا يخاف من بشر. مسؤوليّته كبيرة، يشرّفها بأن يقول ما عليه أن يقوله: يؤنّب، يوبّخ كالنبي. رسالته الاجتماعيّة لا يرفضها، هي فخره.. ومرّات يشجّع فيصبح شعره مرآة مجتمع فيه الغثّ والثـمين، وما أجمل أن يكون الثـمين في من يسيرون نحو هدف حياة اختاروها، وما أبشع الغثّ عند أناس لا يشرّفون دعوتهم في الحياة. ولكل هدف، فمنهم من يعملون في سبيله، ومنهم من يتنكرون له فيصبحون عالة على مجتمع يهدمونه وهم مسؤولون، ولا يبقى فيهم عنصر للبناء.
هذا الشاعر الاصلاحي الذي وصفناه هو شربل بعيني، الذي يتحفنا اليوم بديوان جديد أللـه ونقطة زيت.
العنوان يتركنا حيارى. نتصفّح الديوان فنرى أن الشاعر مجروح متألّـم لعدم الصدق عند من لهم أن يكونوا صادقين، عند من عليهم أن يسيروا بالدين لتنقية الأجواء لا لإفسادها، لبناء مداميك الصرح الاجتماعي لا لدكّه. وإلاّ فما عليهم إلاّ أن يعبّروا عن كذبهم وغشّهم فيكونوا من الصادقين".
هل انتبهتم كيف خرج سيادته بريئاً، مرفوع الرأس، من اتهامات شاعر طالت كل رجال الدين، لدرجة أنه تخطّاه في هجومه، ونمّر عليه، وقال فيهم ما لـم يقله أحد سواه؟ وهل انتبهتم أيضاً، كيف برّأ صديقه شربل من تهمة التجنّي والتطاول، وجعل منه مصلحاً اجتماعياً لا يخاف لومة لائـم؟. هذا هو أسلوب المطران عبده خليفة الذكي جداً. فلنتابع القراءة:
"أخذ المسيح السوط لا لأمر، إلاّ ليطهر الهيكل الذي هو مركز العبادة والاتحاد باللـه، وليعلّم الأجيال الطالعة أن السوط يجب أن يظلّ حاضراً في ضمير يعي المسؤوليّة ولا يبخّرها، في ضمير واعٍ يقظ لكي لا تتكدّس فيه وعليه طبقات السفالة والانحدار نحو الأرض، والانزلاق المشبوه إلى أسفل، مغبّات كل ذلك تشويش ضمائر الآخرين، والتساؤل عن الطريق الصحيح وعن الحقّ، وقد قال السيّد في الكتاب: تعرفون الحقّ والحقّ يحرّركم، والويل لمن تأتي الشكوك على يده".
وبعد هذه المحاكمة اللاهبة لكل من ضلّ الطريق من زملائه رجال الدين، يبدأ سيادته بتقريظ القصائد، وبامتداح صاحبها:
"القصائد الأربع والعشرون التي يضمّها ديوان أللـه ونقطة زيت، تتميّز بالعفويّة والأصالة التي هي من مناقب الشاعر الحقيقي. لا ينحت من صخر بل يغرف من بحر آلهة الشعر، وتأتي القصائد كلّها وكأنها صيغت في وقت واحد. أمواج دفّاقة تتشابه بكل ما فيها من تيّارات جعلت لهذا الديوان وحدته وتضامن أفكاره وسعة آفاقه. نطالع هذه القصائد على اختلاف مواضيعها، ونشعر بأن نسمة واحدة تهيمن عليها، نسمة الإيمان، نسمة الصدق، نسمة الموضوعيّة، وأيضاً وأخيراً، نسمة القرف أمام خزعبلات من له أن يعيش صادقاً مع نفسه ومع الآخرين".
ورغم هجومه، ورغم إطرائه، نجد أن سيادته لـم يسكت على الضيم، بل وخز شربل بشوكته وخزة سريعة مؤلمة، وكأنه يريد أن يقول له: أنصفتك ولكنّك ظلمتني:
"نرى مرّات عند الشاعر قساوة شاملة دون تمييز، وهذا غلط. فمن كان للانتقاد عرضة، فعلى الشاعر أن يسلّط عليه سيف النقد والدينونة، وأن يحمي من لذعاته من هم في أصالة الدين وخدمته لوجه اللـه".
وقد استشهد سيادته ببعض الأبيات من الديوان ليدلّ على قساوة شربل:
"وفي مجال هذه القساوة، بدون تمييز، قول الشاعر:
بْرَمْت الدّنْيي بْطُول وْعرْضْ
تا أعْرِفْ لَيْش الْكُفّارْ
انْقَرْضُوا مْن شْوارِعْنا قَرْضْ
وْصَفُّوا بِمعابدْنا كْتارْ
لا نقرّ للشاعر بقوله هنا، إنما إذا وضعنا هذا النقد اللاذع في أجواء من ينتقدهم، في أجواء من يريد أن يجرحهم لعلّهم يرعوون، نرى أن هذه الشموليّة في النقد لا تلفّ إلاّ من يريدهم ويريد نقدهم، وهم عالة على المجتمع الذي يعطونه لوناً باهتاً، ويوصمون الدين الذي هو براء منهم بوصمة التجارة والغشّ".
يريد المطران خليفة أن ينتقد شربل على شموليّته في النقد، ولكنه لا يريد أن يزعله، أو بالأحرى، لا يريد أن يعتقد القارىء أن شربل يقصده هو أيضاً في نقده، لذلك برّر شموليّة شربل في النقد، بشموليّة نقديّة أعنف كلمة، وأشدّ وطأة، ولسان حاله يردّد مع عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلَنْ أحدٌ علينا
فنجهلُ فوقَ جَهْل الجاهلينا
وعن النفحة الوجوديّة في شعر شربل، يقول سيادته:
"نفحة وجوديّة تهيمن على شعر شربل بعيني، ينظر إلى الأمور حوله، لا يغيب عن واحد منها، ميله أن يرى ما يستحقّ النقد، وهذه ميزة المصلح الاجتماعي. الإيجابي ليس بحاجة إلى من يشيد به، وهو قبلة أنظار الجميع. السلبي يستوجب الإصلاح لكي يُبنى مجتمع على ركيزة هي رمز صحّة البناء واستمراريته".
المقدّمة، كما ذكرت، طويلة ورائعة، لذلك سأقلّب صفحاتها، وأتغاضى عن استشهاداتها الشعريّة، لأصل إلى الخاتمة:
"نفحة جديدة في نقد شعري اجتماعي لشاعر برهن في دواوينه الماضية، وفي ديوانه الحاضر عن فكر ثاقب، عن وعي اجتماعي صحيح، عن إيمان صريح لا يريد شائبة في المؤمنين، عن إرادة صلبة ليخلّص الإيمان من الدجّالين والمجتمع والغشّاشين.
نفحة تقود الشاعر إلى عفويّة التعبير، وصدق التأكيد، وصراحة النقد، ولهذا فإننا ننصح بقراءة هذا الديوان، ففي هذه المطالعة خير وفائدة جمّة، ونفع ثابت وتحريك للأفكار وتوجيه للعقل، وخاصّة الذي أراد الهدى فاهتدى".
كلمات المطران خليفة، تحاليله، تعمّقه الفلسفي، تفهّمه للأمور، سرعة البديهة عنده، حنكته في استيعاب النقد، وثقته اللامحدودة بنفسه، أمور أربحته معركة التحدي التي واجهته وهو يكتب مقدّمة ديوان كل ما فيه ضدّ رجال الدين. وجعلت منه بطلاً لا يخاف النقد، لأنه خارج النقد. وفي الوقت نفسه أنصف الشاعر وحثّ القارىء على مطالعة ديوانه.
رحمك اللـه يا صديقي العزيز، لقد كنت الصوت وكنت الصدى، وما زلنا نحن نتنعّم بذلك الصوت وذلك الصدى.
**