من محردة، عروس العاصي.. لعريس مجدليّا

مفيد نبزو ومحفوض جرّوج، إسمان تلازما تلازماً كليّاً في كل كلمة كتباها عن شربل بعيني، أو في كلّ رسالة أرسلاها إليه. تماماً كما كان يفعل الأخوان رحبّاني في جميع مؤلفاتهما الموسيقيّة، حتّى أصبح من الصعب فصل الإسمين عن بعضهما البعض، أو تفضيل أحدهما على الآخر.
ورغم أن بعض رسائلهما قد وقّعت بشكل انفرادي، تارة باسم مفيد، وطوراً باسم محفوض، خاصّة عندما دخل مفيد الجندية، إلاّ أنني لن أفصل بينهما، طالما أن معظم رسائلهما موقّعة باسميهما معاً، وطالما أنني أنفّذ رغبتهما التي وجدتها مشرقة بين السطور. هكذا أرادا، وهذا ما سيحصل.
ولكي أعرّفكما على هذين الأديبين السوريين، أحب أن أطلعكم على أولى رسائلهما لشربل، فلنقرأ معاً:
"أجمل ما في العمر لقاء الأدب. وأسمى محبّة محبّة الكلمة. لأنه في البدء كان الكلمة، والكلمة عند اللـه.
لقد استلمت من أخي الحبيب نعمان حرب مجموعتين شعريتين كنت قد خصيّتني بهما. تلقّيتهما فشممت فيهما رائحة حبّك، وعبق مودّتك. ففرحت جداً، وقرأتهما بلهفة وشوق. فأعجبت بهذه الشاعرية الأصيلة، وهذه الطاقة الشعريّة، والصور الجميلة، والسلاسة اللغويّة التي تميّزت بها هذه القصائد.
يسعدني جداً جداً أن أضمّ محبّتك إلى قلبي، ونكون جنباً إلى جنب في ميدان الكلمة، وحديقة الإبداع. فأرجو أن تستمرّ علاقتنا وأخوّتنا، لنكبر فيهما، ونفخر فيهما، ومن خلالهما يتفجّر ينبوع العطاء. فألف شكر للأخ الحبيب نعمان حرب الذي كان له الفضل الكبير في تعريفي لحضرتك: شعراً وروحاً، وإن شاء اللـه نتعارف بالذات بعد أن تعارفنا بالروح والعاطفة. بادرة الأستاذ نعمان لن أنساها إلى الأبد بإذن اللـه.
أخي الحبيب شربل..
نحن هنا في محردة، عروس العاصي، ندعوكم، وفي أوّل زيارة لعندنا في سوريا، لزيارة محافظتنا الكريمة حماة ـ مدينة محردة، ليتمّ اللقاء بكم، ونفرح بوجودكم بيننا.
لا أدري إذا كنت قد عرفتني من قبل، أو سمعت عنّي من خلال الصحف والمجلاّت أو الأخ نعمان. فأنا أكتب الشعر والزجل والمقالات والدراسات، وأنشر في عدد من الدوريّات في سوريا وبعض الأقطار العربيّة، وأنا مراسل لمجلة الشراع اللبنانيّة، ولمجلّة الضاد الحلبيّة.
يشاركني في التحيّة والمعايدة أخي الأديب محفوض جرّوج، الذي قرأ معي شعرك الحلو العذب، ويسعده التعرّف لحضرتك أيضاً. فأنا وهو نعمل مشتركين في حقل الأدب".
يتضح لنا بعد قراءة الرسالة الأولى، التي لا تحمل تاريخاً، أنهما من مدينة محردة السوريّة الرابضة في محافظة حماة. وأنهما رفيقا درب وكلمة، وأنهما يكتبان الزجل والفصيح والمقالات النقدية، وأنهما عضوان في اتحاد الكتّاب العرب، ومراسلان للعديد من الدوريات العربيّة والمهجريّة، كما أنهما من الشعراء المعروفين في الوطن العربي. وقد لا أذيع سراً إذا قلت: أنهما كتبا في أدب شربل بعيني أكثر ممّا كتب مالك في الخمرة. وهذا ما سنكتشفه الآن، وإن كنت سأغضّ النظر عن العديد من دراساتهما وقصائدهما ورسائلهما، ولسان حالي يردد: يجب أن تحفظ هذه الدرر الأدبيّة في كتاب، كي لا تضيع في الغربة.
ومن دررهما الأدبيّة أختار بعض الأبيات من قصيدة أرسلاها لشربل عام 1988، وفيها يعلنانه شاعر الأمّة العربيّة. وما العجب في ذلك؟. أما ليس كلّ شاعر صادق هو صوت شعبه، وصرخة أمتّه:
عرفتُهُ شاعراً.. ما كان يوماً
سوى البركان في الحقد الدفينِ
عرفتُهُ شاعراً.. غنَّى فأغنى
وهزَّ الأرضَ في شعرٍ متينِ
فَيَا أَمْواجُ هاتيهِ إِلَيْنا
وإلاَّ أَسرِعي ولَهُ خذيني
عروس الكرم قد تاقت إليهِ
تسائلني، أجاوبُها: دَعيني
أخافُ الشعر يُخجلُني فَهَيّا
أَعيني الشاعرَ المضنى أعيني
ولا تنسَيْ غداً، إِنْ عادَ، غَنِّي
فشاعرُ أُمَّتِي شربل بُعَيْني
ومن قصائدهما الزجليّة أختار قصيدة نشرتها لهما جريدة صدى لبنان في العشرين من آذار عام 1990، العدد 686، وعمّرا مداميك أبياتها على حروف اسم شربل بعيني، وفصّلاها كما تفصّل القصيدة الكلاسيكيّة العموديّة، لا كما تفصّل قصائدنا الزجلية، التي ينتهي صدر بيتها بقافيّة، وعجزه بقافيّة مماثلة أو مختلفة، لا فرق، كما حصل في البيتين الأخيرين من القصيدة:
يا مجدليّا.. الشاعر بحضنك رِبِي
تفتَّق شعر عَ شْفايفُو.. وبعدو صبي
الشين.. شاعر عانق نجوم السّما
والراء.. ربّان الشعر والموهبِه
والباء.. باني صرح للشعر الندي
وطار الشعر لفوق أعلى مرتبه
واللام.. ليل السهر بمْواسم شقا
يفرّق غْناني حدّ هاك المصطبه
والباء.. باني الحقّ تا يركّع ظلـم
والعين.. عرّاب الأرز.. قومي اخطبي
والياء.. ينبوع العيون الظامئة
الـ قللاّ: تعي من شعر وجداني اشربي
والنون.. ناقوس الهجر تا يرجعوا
يصلّوا سوا بلبنان.. لبنان الأبي
والياء.. يعمي الحقد.. يحرق هَـ الوحوش
يفقي بمخلب حرّ .. عينين الغبي
القصيدة طويلة ومشوّقة.. ولكنني سأتوقّف هنا، لأعلّق على البيت الذي يطلبان به من شربل أن يعمي الحقد، وأن يحرق الوحوش، وأن يفقأ أعين الأغبياء. وهما لو أدركا أن الحاقدين أكثر من الطيّبين، وأن الوحوش أكثر من أبناء آدم، وأن الأغبياء يتطاولون على الشرفاء بخساسة مقرفة، لا لشيء، سوى للظهور الخادع، وللبهرجة المقيتة، وللتزعّم السافل، لكانا أبعدا هذه الكأس عن شربل بعيني. إنها حرب شرسة بين الحقّ والباطل.. وأعتقد أن الحق سيهزم الباطل.. طالما أن أرباب الكلمة الشريفة يقفون مع الحقّ، غير خائفين من لسعات ألسنة الأنانيين، ووخز إبر الزحفطيّين إلى أقصى درجة ممكنة.
وبما أن صرخة جبران خليل جبران كانت صرخة إغترابية رائدة ضد أعداء الحقّ والإنسانيّة، نجدهما في آخر القصيدة يحثّان شربل على متابعة طريق جبران النبي:
شربل.. يا شربل.. لا تقول: بغربتي
معذّب، الغربه كتير قلبي معذّبِه
جبران ما حلّق بشعرو ولا سَما
لولا الهجر.. لولا الموت الخلّبي
يا طيور ربّي من القلب لا تهربي
ويا شمس حبّي من السما لا تغربي
مات الأمل، مات الفرح، مات الندى
تا ولد من جبران.. جبران النبي
ومن دراسة بعنوان (هاجس الحب والحرب والوطن عند الشاعر شربل بعيني) نشرتها لهما جريدة صدى لبنان في الرابع من تشرين الأول 1988، العدد 616، أختار الآتي:
"كل من يسافر على أمواج الشاعر المهجري الأستاذ شربل بعيني، لا بد أن يلمح هذه القضايا التي شغلت حيزاً كبيراً في شعره. ففي سفينته الشعريّة مرساة بانتظار شاطىء الوطن، وحمامة بانتظار السلام للوطن، ووردة تنتظر لحظة زفافها للحب.
إنه الشعر، لغة اللـه على الأرض. إنه الشاعر الذي يقف أمام اللـه وجهاً لوجه، وينقل إلينا منه الكلمة التي كأنها في البدء، وكل شيء به كان، وبغيره لـم يكن شيء مما كان، فهل سمعته يرتّل صلاته للـه؟.. إنها صلاة حبّه".
وهل أجمل من هذه الشهادة التي سأقطفها من أشجار رسائلهما المثمرة، وأقدّمها لكم على طبق من ذهب، لتدركوا مدى إعجاب إبنَيْ وطني سوريا بشعر شربل بعيني:
"لقد كان رفيقي في الأيام التي خلت مجموعة قلائدك الشعرية الممتعة، التي كانت تحبسني لساعات طوال خلال اليوم، أعيش فيها معك ومع أشعارك الرقيقة الرائعة، فعبير حروفها الشاعرة كان يحملني على أجنحته الأثيريّة إلى عالـم يعبق بنفحات أنفاسك التي أسالت على أوتار الشعر غناءً تنتشي منه القلوب قبل الأسماع، فقصائدك قطع موسيقيّة تعدّدت فيها الأصوات والنغمات، إلاّ أنها صدرت من قيثارة واحدة، ومن ينبوع متناهٍ في الحساسيّة، يفيض بين حنايا صدرك، يقدّم نسغاً جديداً إلى أدبنا، ويضيف إلى كنوز الشعر العربي لآلىء جديدة لا تقلّ عمّا أعطاه هؤلاء الكبار من الشعراء قدراً وقيمة، لذلك استساغ شعرك كل من قرأه، وأنزله في قلبه المنزلة الرفيعة التي يستحق. كما أنني على ثقة تامّة بأن عندك درراً لـم تلفظ بعد، وفي إهابك تحرّقات ستصوغها أزهاراً نديّة في حديقة الشعر العربي المعاصر".
هذا الكلام لا يقلّ جمالاً عن القصيدة العموديّة التي أرسالاها لشربل عام 1989، وفيها يخاطبانه كما يخاطب العاصي حقول مدينتهما محردة، ليزيدها خصباً وعطاء:
أشربلُ قد عرفنا اليوم شاعرْ
يذيبُ الحرفَ من وجع المشاعرْ
وينسج حلمه المجدول سحراً
ليزهو في العيون وفي الضمائرْ
عرفنا اليوم حسّوناً جديداً
يحنّ إلى الحدائق والأزاهرْ
فرتِّلْ يا سخيَّ الشِّعر لحناً
فإنَّ الهجر يحرق كالمجامرْ
وزفَّ الحبَّ أمنية الأماني
لأنَّ الفجر في شفتيك ساحرْ
أما أهديتَ للإنسان نوراً
فأمسى النورُ في الدنيا منائرْ؟
أما أهديتَ للإيمان ورداً
وأطياراً تزفّ لنا البشائرْ؟
فأينعت السنابلُ وهي شعرٌ
جميلٌ.. أين عصفورُ البيادرْ؟
أشربلُ.. يا نديَّ الشعر رتِّلْ
على سحر الهوى بصلاةِ شاعرْ
فإن الشعر يخفقُ في ضلوعي
وينشده الفؤادُ من الحناجرْ
فهاتِ الشعرَ فخراً واعتزازاً
وفاخِرْ بالهوى والشِّعر فاخِرْ
أما هاجرتَ من بلد الأماني
ورحتَ تجوب في الدنيا مغامرْ؟
فذقتَ من العذابِ المرِّ مرّاً
وصرتَ ولـم تزلْ في الهجر حائرْ
فهاتِ الشعرَ بالأشواق يهفو
إلى لبنانَ.. أو أمِّ الضفائرْ
وهاتِ الشعرَ أصدقُه حنيناً
فما عَرَفَ الهوى صدقَ المهاجر.
وإذا قرأنا بتمعّن زائد انطباعاتهما التي وجداها في شربل بعيني، ونشرتها جريدة البيرق في السادس عشر من حزيران 1990، العدد 149، نجدها قد اختصرت كل الكلام الذي قيل فيه، وأضاءت الصدق في قنديل الكلمة، وحثّتنا على التمسّك أكثر وأكثر بآرائنا وعدم التنكّر لها، وإليكم ما كتبا:
"وجدت فيك شاعراً حرّاً طليقاً تعشقه النجوم..
هزاراً صدّاحاً بنغمات لا تعرف الأسى والمذلّة،
تنثر في كلّ مكان منثوراً وفلاًّ،
تزرع الأشواق في الطريق أمنيات..
قامةً طويلة تعانق الغيم والنجوم،
تستعذب لذّة النجوى وزهو الاكتشاف..
عيناً تحدّق في الظلمات،
تنزع من الليل المحمول على الأكتاف فجراً..
زهرةً تفتّحت بين أيدينا، فأحالتها شمساً من نضار..
أرزةً شامخة نبتت في صحراء الغربة..
ومضةً مزّقت عين السماء الضريرة..
سيفاً لا يُغمدُ، وفارساً في كلّ ساح..
صوتاً من نار، عن الحقّ يدافع..
شعاعاً يبدّد البرد الجامد في الأطراف،
فيتفتّح الدفء زهرة في أعماقها..
نسمةً هبّت على الجذور الجدباء، فسرى النسغ في أحشائها..
جدولاً روى شجرة الشعر، فغدا جمالها يبهر العيون بوارف ظلالها..
ملجأً تأوي إليه الطيور لتحتمي من ريح غدّارة..
كتاباً يقول الحقيقة، كلماته ثائرة النبرة حرّة..
سحابةَ خير أمطرت، ففجّرت الينابيع في البيداء..
مرفأً ترسو فيه سفن الأرواح الظامئة للحب والجمال..
جسرَ العابرين إلى ضفاف غدٍ وضّاء..
هل أنت كلّ هذا؟
نعم، يا عطراً يطلّ على القصائد..
إنّك شاعرٌ.. والشاعر هديّة السماء للبشر".
ألـم أقل لكم أن هذه الإنطباعات تختصر الكثير من الكلام، وتوصلنا إلى برّ الحقيقة، وتهمس في آذاننا أن شربل بعيني شاعر، والشاعر هديّة السماء للبشر.
أخيراً، لا يسعني إلاّ أن أنهي هذه الحلقة بعبارة رائعة وردت في نهاية إحدى رسائلهما لشربل، سيردّدها تاريخنا الإغترابي بفخر:
"عشت أيّها الشاعر، وعاشت أمّة كانت ولـم تزل تنجب أمثالك من عباقرة الحرف في كل زمان".
حيّاكما اللـه أيّها الأديبان السوريّان مفيد نبزو ومحفوض جرّوج، فالتفاتتكما لأدبنا المهجري عظيمة كحروفكم المنضدة بالصدق، والمرويّة بمياه نهر العاصي، حبيب مدينتكما محردة، وملهمكما الأكبر.
**