محمد الشرفي: من أنت أيّها الرجل؟

عام 1990، كنت أصطاد السمك تحت جسر سيدني الشهير، في المنطقة التي تقع بها مدينة الملاهي (لونا بارك)، فإذا بشخص يأخذ الصنّارة من يدي، وكأنّه يريد سرقتها، فتطلّعت به والغضب يجتاحني كعاصفة. فإذا بي أقف أمام رفيق غربتي الشاعر شربل بعيني والشاعر اليمني الكبير محمد الشرفي. فصحت بأعلى صوتي:
ـ أهلا وسهلا بابن اليمن البار، أخبارك تملأ صحفنا المهجريّة، ورسمك نحمله في أعيننا وقلوبنا.
فأجابني الشرفي وهو ينظر إلى قبّعة كنت أضعها على رأسي:
ـ شكراً يا أخي.. لقد غمرتموني بمحبّتكم. واللـه الجالية العربيّة في أستراليا عظيمة، لـم تتخلّ بعد عن عاداتها الشرقيّة المشرّفة.
هنا، التفت إليه شربل وقال:
ـ دعني أعرّفك بصديقي المهندس رفيق غنّوم، كان منذ مدّة صاحب جريدة صوت المغترب.
فسألني الشرفي:
ـ ولماذا تخليّت عنها..
فقلت:
ـ لأسباب صحيّة.. وها أنا، كما تراني، أصطاد السمك من أجل الترويح عن النفس، وتنفيذاً لرغبة طبيبي. والآن، أخبرني هل أنت مسرور في أستراليا.
فتطلّع بشربل بعيني مليّاً وقال:
ـ أنا في ضيافة صديقي وأخي شربل بعيني.. الرجل الذي يعرف كيف يكرّم أصدقاءه.. فلولاه لما جئت إلى أستراليا، ولولاه لما حصلت على جائزة جبران، ولولاه لما التقيت بصحفي شاب، أجرى معي حديثاً في منزل شربل، ووعدني بإعداد دراسة أكاديميّة عن أدبي، يقدّمها لنيل شهادة الدكتورة.. على أن أزوّده بمؤلّفاتي متى رجعت إلى اليمن، ولكي يقرّب شربل بعيني المسافة الزمنيّة للدكتورة أهداه كل ما أهديته من كتبي.. إسمه.. إسمه..
فصاح شربل بعيني من المكان الذي يقف فيه لالتقاط صورة تذكاريّة لنا:
ـ أتركها مفاجأة يا محمّد..
فضحك الشرفي وقال:
ـ هذا هو شربل.. لا يخبر عن عمل قبل الإنتهاء منه.
وعندما همّا بتوديعي، همس شربل في أذني:
ـ تعال الليلة إلى منزلي.. سيستلم الشرفي جائزة جبران، وسيلقي أحلى قصائده.
وفي المساء، كان منزل الشاعر شربل بعيني يعجّ بالأدباء والشعراء والصحفيين والفنانين، فاستلم الشرفي جائزته من رئيس رابطة إحياء التراث العربي الأستاذ كامل المر، وجائزة المرأة العربيّة في أستراليا من الممثلة نجوى عاصي.. بعدها حملنا على أجنحة قصائده إلى عالـم لا يصله إلاّ من تذوّق الشعر وعاش لحظات هبوب نسائمه.
وقصّة شربل مع الشرفي بدأت حين التقاه في المربد الشعري في العراق عام 1987، فأهداه الشرفي مجموعة من كتبه، وأعطاه عنوانه لمراسلته، فكانت حصيلة هذه المراسلات العشرات من الرسائل الأدبيّة الهامّة.. والعديد من المقالات والمقابلات مع الصحف اليمنيّة.
ومن الرسالة الأولى، بدأ إعجاب شربل بعيني بصراحة صديقه الجديد محمد الشرفي، فلقد حمل على شعره الفصيح حملة لا يقبلها إلاّ من كان بعقليّة شربل بعيني، وبشاعريّة شربل بعيني. رغم أن نقد الشرفي لشعر شربل لـم يكن بالنقد الجديد، فلقد سمع مثله من نزار قبّاني، والدكتور عصام حداد، ونعيم خوري، وكامل المر، وميشال حديّد، وجوزاف بو ملحم وغيرهم.. كما أنه اعترف على صفحات كتبه، وفي العديد من قصائده، وخاصّة في قصيدته المربديّة، أن الوزن لا يعنيه، في زمن ضاعت به كل الأوزان وكل المقاييس، وأصبح الإنسان في بلاده، وفي كل بلاد، يقتل أخاه الإنسان من أجل المتعة ليس إلاّ. فلنقرأ ما خطّت أنامل الشرفي في رسالة أرسلها لشربل بتاريخ 30/3/1988:
"ملاحظتي على ديوانك عدم ضبط الوزن "التفعيلة"، والنثريّة أحياناً، والنزاريّة الواضحة، وقد يكون شعرك بالعاميّة اللبنانيّة "جبل لبنان" أفضل من شعرك بالفصحى، ولكنني لا أشجّعك أن تعتبرها البديل للغة العربيّة الفصحى. فأنت عربي، ولن تكون كسعيد عقل، أو على مذهبه، ولا تصدّق من يشجّعك، المنطقة واحدة تراثاً وتأريخاً ولغة وجغرافيا، وأحلاماً، وآلاماً، ومسافات عبر التاريخ الطويل الماضي، والمستقبل التأريخي القادم..".
وبدلاً من أن يهرب شربل من وعظ صديق جديد، ويتوقّف عن مراسلته، تمسّك به أكثر فأكثر، ولسان حاله يردّد: صديقك من صدَقَك لا من صدّقَك. ثـم ألـم يعظه صديقه نزار قبّاني بكلام مشابه عندما زاره في مكتبه في بيروت عام 1968؟ فلماذا الزعل إذن؟
ولكن الشرفي، وبعد أقلّ من عام، بدأ يستلذ بقراءة أشعار شربل بعيني، وبدأ يناديه "بالشاعر الإنسان"، كما أنه بدأ يعلن عن إعجابه باستمرارية عطاءات شربل في هذا البلد البعيد. فلنقرأ معاً مقتطفات من رسالته المؤرخة في 13/3/1989:
" أخي الشاعر الإنسان الأستاذ شربل بعيني.
تحيّة، وأمنيات الشعر والأدب لقلمك، وروحك الشاعرة، وحروفك المتوهّجة، ونبض قلبك الدائـم بالحبّ للإنسان، والوطن، والأرض.
تسلّمت رسالتك، مع خمسة كتب من كتبك، وكنت قد استلمت قبلها كتاباً جميلاً، وقرأته وهو جميل عنك، وأنا معجب لهذه الإستمرارية العجيبة في ذلك البلد البعيد..
أشكرك أيضاً على الكلمات القصيرة، لكنّها أطول في القلب والتأثير من مقالة أطول، أو دراسة، لنظل مع هذا التواصل، وقد تسنح الفرصة عند عودتي إلى اليمن نهاية هذا العام، فأقدّمك للقارىء اليمني والعربي".
هذا هو شعر شربل بعيني.. إمّا أن ترفضه وإمّا أن تقبله كما هو. فشربل يعرف تماماً كيف يصوغ أشعاره، ويعرف أيضاً أن "الشعر هو الشاعر لغة وموسيقى"، وأن ما سار عليه الأولّون قد لا يسير عليه اللاحقون، وأن الزمن كفيل بتغيير الأوزان والأنماط السائدة، وأعتقد أن الشرفي بدأ يكتشف أسرار اللعبة الشعريّة الذكيّة عند شربل بعيني، فبدلاً من الوعظ السابق بدأ بتصديق شربل من خلال أشعاره، وأنه صاحب رسالة. وإليكم بعض ما كتب في 9/12/1989:
"أخي الشاعر شربل بعيني..
تحيّة.. أصدّقك من خلال أشعارك، والإستمرار، أنك صاحب رسالة، وأصدّق الآخرين فيما كتبوا ويكتبون عنك.
أنت أحد المهمومين بالإنسان، وبالإنسان في لبناننا، وبيروتنا، وفلسطين، والعرب. والمهمومون بمثل هذه القضايا متعبون، والمتعبون هم الشعراء، والأنبياء، والمصلحون. لأنهم يفكّرون في كل شيء يهمّ الإنسان.
قد نلتقي مرة أخرى، وقد لا نلتقي، ولكننا التقينا وكفى. لقاؤنا في بغداد لقاء، ورسائلنا الآن لقاء أعمق وأسخن، لأننا على بعد آلاف الأميال، وما زلنا نلتقي على صهوات الروح، ومتون الأدب والشعر: أدب الإنسان، وشعر الهدف والقضيّة.
أزفّ إليك إعجاب بعض المعجبين بنشاطك، ونشاط الإخوة المهجريين في أستراليا. ويقول البعض ويتساءلون: هل هذا غزو أو فتح أو استيطان للغة العربيّة في المهجر؟ وقد أجيب أحياناً بأن ذلك يشير إلى أمرين سلبي وإيجابي:
ـ السلبي، هو انعدام الحريّة للمبدعين في بلادهم (دليل على قيمة الحريّة للإبداع).
ـ والإيجابي، نشاط المبدعين واستمرار إبداعهم في المهجر (دليل على حب الحرية والوطن، وأن المهجر ضرورة).
أؤمن كما تؤمن أنت، وكل المهاجرين، أن الحريّة أساس الإبداع، وأن الإبداع أساسه الحريّة، وأن الشعوب المبتلاة بالعبوديّة والقهر والكبت، سوف تظلّ في أول صفوف المتزاحمين على القبور والمشانق والفناء.
لقد سقط جدار برلين، فمتى تسقط بقيّة الجدران في الوطن العربي أو في العالـم الثالث "عشر"؟.. عمر الخطّاب قال: متى استعبدتـم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟
كم أتمنى اليوم الذي تكتب لي فيه من قريتك الصغيرة في لبنان، ولبنان صدر ورئة، كما كان يتنفّس منها المبدعون الأحرار. قال أحدهم: بيروت غلطة حضاريّة صحّحها العرب. ليتنا نصحّح معاني الحريّة والديموقراطيّة، والتعامل، والأخلاق، والسلوك، وأقول: يا ليت.. يا ليت.. حتى ولو بعد أن نموت".
هذه الثورة "الشرفيّة" هي التي حبّبت شربل بشعر محمد الشرفي، ودفعته للتواصل معه. لأنه وجد إنساناً آخر في العالـم العربي يؤمن بما يؤمن به هو وأكثر. ووجده أيضاً أهلاً للفوز بجائزة جبران العالميّة، التي تمنحها الرابطة باسم شهداء الكلمة في كل مكان، وهل أفضل من هذا "الشهيد الحي" المدعو محمد الشرفي للفوز بها.
وكما ذكرت سابقاً، فلقد استلم الشرفي جائزته في منزل شربل بعيني عام 1990، لأن طائرته تأخّرت عدّة أيّام عن الموعد ـ الحلم مع الجائزة. ونزل ضيفاً مكرّماً عنده. وإليكم ردّة الفعل عند الشرفي بعد لقائه الثاني بشربل، كما صوّرها في رسالة أرسلها بتاريخ 1/1/1991:
"أخي الشاعر المبدع الكبير.. والإنسان الإنسان الأستاذ شربل بعيني المحترم.
ألف تحيّة، وكل عام وأنت بخير..
والأذن تعشق قبل العين أحياناً.. وقد تذوب العين والأذن والقلب محبّة عند اللقاء. وتنساب أنهار المحبّة بعد اللقاء، وتنفتح بساتين في القلب، وتنعقد ألف أغنية وأغنية في الأذن، وتخضرّ ألف سماء وسماء في العين.
لقد امتدت جسور بيني وبينك من الأهداف والمبادىء الإنسانيّة قبل اللقاء الأخير، وها هي جسور مجنّحة من المشاعر والعواطف تمتد جديدة دافئة متينة في أعماق القلبين، وأغوار النفسين..
مَن كنت أيّها الرجل؟
ومَن أنت اليوم؟
أيّها التضحيّة التي لا تنتهي، والمحبّة التي لا تذبل.
مَن أنت عندي بالأمس؟
ومَن أنت اليوم وغداً؟
يا مَن أينعت السنابل في قلبه محبّة، وضميراً حيّاً، وخلقاً كالربيع الدائـم.
هل أقول إنك واحد ممن كنت أبحث عنهم في شعري، وأفتّش عنهم في زوايا الخيبة، وجفاف الأرض؟..
مثلك أيها الإنسان عملة نادرة، فأنت مبدع سلوكاً، ومبدع شعراً، ومبدع عملاً، وعلاقات مع الآخرين. لقد رأيت، وسمعت، وقرأت، فما أخطأت فيك عين، ولا خابت أذن، ولا كذبت قراءة.
وما كنت أحسب أن للقصائد قدمين تمشي بهما، وعينين ترى بهما، وأذنين تسمع بهما، حتى لقيتك..
أتمنى لو تتحوّل القصائد إلى سلوك، ودواوين الشعر إلى قيم وأخلاق، حينئذ سيبحث الشعراء عن موضوع آخر للشعر، وأرض أخرى للإبداع. أو يستحيلون إلى أرواح ملائكيّة، تبث السعادة في نفوس البشر، وتزرع النور في كل طريق.
لـم أعد أحملك في نفسي أفكاراً مجردة، وكلاماً أو شعراً هلاميّاً بارداً، لقد أصبحت أغنية أصغي إليها كل يوم، وجريدة يوميّة أقرؤها كل صباح، وفنجان قهوة أكسر به بقايا نعاس، وأنفض به بعض رماد عالق في الوجه، والمتطاير من منافض الرداءة الفكريّة، ورديئي الشعر والشعراء، نجّاك اللـه من رماد الشعر، وغبار الشعراء!!
أخي شربل.. قد لا أستطيع أن أقول كل شيء في هذه العجالة، وفي أوقاتي المزدحمة بالعمل والهموم، ولكنني قد أقول كل شيء بالتقسيط، وعلى امتداد الأيّام والسنوات القادمة، وكيف لا، وقد حفرت بنفسك صورتك في الأعماق، كما هي أمام عيني صباح مساء على جدران منزلي، ووراء كل حرف وسطر في كتبك، وشعرك، وإبداعك، ورسائلك التي لا أرى أنها ستنقطع أو تتوقّف، والتي قد تتحوّل إذا أردت إلى وسيلة أدب وفكر متبادل، ونقاش صادق لهموم الأدب والإنسان.
أخيراً، قبّل عنّي أمك، أمي، أم المؤمنين، التي أعادت إليّ دفء الحب في صدر أمي الراحلة، وحنان عواطفها، ورعايتها، وبورك لها فيما أنجبت، واحتضنت، وربّت، ورعت، وسلّم لي على كل الإخوة والأصدقاء فرداً فرداً، وكل عام وأنتم بخير".
ألـم أقل لكم أن شربل بعيني قد ارتكب جريمة كبرى بإبقاء رسائل تاريخيّة كهذه في أرشيفه دون أن يطلقها للنور.. وكم كنت أتمنى لو كان بإمكاني نشر كل الرسائل التي وصلته، ولكن ما باليد حيلة، فالمجال لا يسمح بذلك.
ما أن وصل الشاعر محمد الشرفي إلى يمنه الحبيب، حتى بدأ الإشتياق إلى صديقه شربل يتأجج في صدره، ويبلبل نهاره، ويؤرقه في ليله.. فبدأ يعمل على استضافته في اليمن.. فاتصل بوزارة الثقافة والسياحة، وقدّم تقريراً مفصّلاً لاستضافة رئيس رابطة إحياء التراث العربي الأستاذ كامل المر وصديقه شربل بعيني. وإليكم ما جاء في رسالة وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء اليمني السيد يحيى حسين العرشي، التي أرسلها لوزير الثقافة والسياحة اليمني في 15/6/1991:
"الأخ وزير الثقافة والسياحة المحترم
بعد التحيّة:
نرفق بهذا صورة التقرير المرفوع للأخ رئيس الوزراء من الأخ الأستاذ محمد الشرفي.
ونظراً لعلاقة الموضوع بالثقافة والنجاح الذي حقّقه حضوره في أستراليا أثناء استلامه الجائزة.
فلا مانع من النظر في المقترحات الواردة في التقرير، ومن ذلك ما يتعلّق باستضافة رئيس الرابطة والشاعر شربل بعيني. وتقبّلوا تحيّاتي".
وراح الشرفي يراجع الوزارة بشأن الدعوة، ويخبر شربل بكل خطواته، وبكل مشاكله، بما فيها المشاكل الزوجيّة، فكتب في 7/7/1991 ما يلي:
"أخي الشاعر الكبير الاستاذ شربل بعيني..
تحيّة.. أشكرك على الإتصال التلفوني إلى عبد الودود المطري. دعوتك والأستاذ كامل المر في وزارة الثقافة. سأتابعها لمناسبة جيّدة.
صمّم الأصوليون على أن يفرّقوا بيني وبين زوجتي، فطلّقت، وتزوجت، وأعيش الآن شهر عسل ممتاز. والضرورات تبيح المحظورات، وللضرورة أحكام".
ولكي يثبت لشربل أنه يعيش كل كلمة كتبها في ديوانه الرائع دموع الشراشف، أرسل له بتاريخ 29/8/1991 صورة يحتضن بها عروسه الجديدة "المودرن"، أي غير المشرشفة، مصحوبة برسالة أختار منها الآتي:
"إطمئن يا شربل.. إن زوجتي الحبيبة بلا شراشف أو أحجبة، وإن كانت تستخدم نصف حجاب مادي على وجهها في حالات، فأسرتها محافظة جدّاً، ولكن ممارستها للعمل كمدرّسة وإداريّة وجامعيّة أتاح لها فرص التخلّص من بعض التقاليد والرواسب الماديّة، فلا يوجد ما يبرّر إنتحاري على أبواب صنعاء، أو إحراق كتبي، إنها تشاركني كل القضيّة بتناغم عجيب فاطمئن. ألهمتني إلى الآن نصف ديوان إنتحار الشراشف الذي سأهديه إليك. هل تريد أن ترى صورتها تفضّل؟"..
وقصة الصورة هذه، تعود إلى حوار ساخن دار بين الشرفي وشربل، وكنت أنا أنصت إليهما وهما يتناقشان في موضوع هام حاربه الشرفي بكل قصائده، ألا وهو موضوع "الشرشف" أو الحجاب الكامل الذي يحجب رأس المرأة ووجهها. فسأله شربل:
ـ هل ترتدي زوجتك الشرشف يا محمد؟
فأجاب:
ـ نعم.. كما أن إحدى بناتي ترتديه..
فقال شربل:
ـ طالما أن عائلتك لا تعمل وفق قصائدك التي تثور بها على "الشرشف"، أجد أن من الأفضل التوقّف عن انتقاده حتى لا يتهموك بانفصام الشخصيّة، وحتى لا يطلبوا منك الإنتحار على أبواب صنعاء، أو حرق كتبك. فلا يحق للشاعر أن يطالب الناس بما لا يفعله هو.
قبيل مغادرته سيدني، سحب الشرفي خاتمه من إصبعه وقدّمه لشربل، فما كان من شربل إلاّ أن سحب خاتمه أيضاً وقدّمه للشرفي.. فتشابكت أيديهما وهما يلبسان الخاتمين.. وحرصاً منه على تذكير شربل بأنه ما زال يلبس خاتمه، كان يرفع يده في اللقاء الذي أجراه معه التلفزيون اليمني، ويلوّح بها وهو يتكلّم كي يلفت شربل إلى الخاتـم.
كثيرة هي القصص الطريفة التي حصلت أثناء زيارة الشرفي لأستراليا، ولكني سأذكر أكثرها طرافة:
طلب الشرفي من الصحفي جوزاف بو ملحم تزويده بكتاب آيات شيطانية لسلمان رشدي، ليأخذه معه إلى اليمن، فصاح به جوزاف: أتريدني يا شرفي أن أكون السبب في إهدار دمك؟. ولكن الشرفي طمأنه إلى أنه سيخفيه في حقيبته الدبلوماسيّة، ولن يكتشفه أحد. ولست أدري إذا كان جوزاف قد حقّق رغبة الشرفي أم لا؟
وذات ليلة، طلب الشرفي من صديقه شربل أن يسكب له كأساً من الويسكي، فرفض شربل تلبية طلبه وقال:
ـ الويسكي يضرّك يا محمد.. إذ أنك تعاني من مرض القلب والسكري، ولا أريدك أن تموت في بيتي..
فغضب الشرفي من تصرفه هذا وقال:
ـ أنا في ضيافتك يا صاح.. وترفض أن تقدّم لي كأساً من الويسكي.
فحمل شربل قنينة الويسكي، وراح يسكبها في المغسلة وهو يصيح:
ـ الويسكي لا يعني لي شيئاً.. صحّتك هي الأساس.. الدكتور قال لي أن المشروبات الروحيّة قد تقضي عليك.. ولا أريدك أن تموت عندي.. أفهمت يا صاح؟.
وأعتقد أن الشرفي لـم يفهم قصد شربل، لأنه راح يشرب ويشرب، وكان شربل يمسك أنفاسه كلّما رأى ضيفه غير عابىء بصحّته. ولكنه، وفي يوم سفره بالذات، أتى شربل بقنينة ويسكي وقال للشرفي: اليوم فقط سأدق كأسي بكأسك، وأشرب معك.. كي أخفّف من ألـم وداعك.. وكي أشرب نخب صداقتنا. من يدري فقد يكون هذا اللقاء لقاءنا الأخير.
فحضن الشرفي صديقه شربل وانفجرا باكيين..
وفي إحدى جلساتنا الحميمة، أبدى شربل بعيني إعجابه بقرآن كريم شاهده في إحدى نشرات الأخبار، بينما كان أحد الرؤساء العرب يهديه لرئيس آخر، فما كان من الشرفي إلاّ أن صاح:
ـ أتعتقد أن الرؤساء العرب أفضل منك؟.. سيصلك القرآن الذي أعجبك متى وصلت إلى اليمن.. ولكن أخبرني، لماذا تريد القرآن وأنت مسيحي ـ ماروني وعلى اسم القديس اللبناني شربل؟
فضحك شربل وقال:
ـ لأنني أفكّر بإهدائك الإنجيل المقدّس.
ورحنا نضحك كما لـم نضحك من قبل. وفي 13/3/1991، أرسل له الشرفي مصحفاً رائعاً وثـميناً، ومرفقاً بهذه الرسالة:
"أرفق لكم بهذا، مصحفاً مفسّراً تفسير الجلالين، ومصحفاً آخر مسجلاً على ثلاثين شريطاً. الأخير أهداه لكم الكاتب الصحفي والقاص محمد عمر بحّاح باسمنا معاً".
وما زلت أذكر كيف انتفضت وعارضت عندما قال الشّرفي إن الحرب تدقّ أبواب الخليج العربي، وقلت له بالحرف الواحد: "لا أعتقد أن العرب سيحاربون بعضهم البعض، وفلسطين ما زالت محتلّة".. واتضح لي فيما بعد، أن العرب لا يحاربون سوى بعضهم البعض، وأن الشرفي كان على حقّ فيما تنبّأ. وها هو يأتي على ذكر الحرب في رسالة أرسلها لشربل بتاريخ 20/5/1991:
"أخي الشاعر الكبير الأستاذ شربل بعيني
تحية طيبة.. أرجو أن تكون في أفضل إبداع، ووفرة إنتاج، وأهدأ عمل، وأوفر كسب. ولقد شغلتنا ظروف الحرب، وما بعد الحرب، وبعد يومين من هذا التاريخ نستقبل العيد الأوّل للوحدة التي هي العزاء، والعوض، والبديل لكل منغصة، وألـم، ونغص في الحياة. وما زلت أتابع مسألة دعوتكم لدى رئاسة الوزراء، ولكنّهم مشغولون، ولكن ستتم قريباً".
الشرفي، كما نرى، ما زال يلاحق دعوة شربل بعيني وكامل المر لزيارة اليمن، ولـم يكن يعلـم أن "أم المؤمنين"، كما كان يحلو له أن ينادي والدة شربل، قد أخذت قراراً حاسماً بعدم السماح لابنها بزيارة أيّة دولة عربيّة، فلقد أصيبت بمرض السكّري عندما تأخّر عن الخروج من المطار، بسبب توقيفه لعدّة ساعات في مطار سيدني، والتحقيق معه من قبل الإنتربول الأسترالي لدى عودته من المربد الشعري في العراق. القصّة رائعة، وسآتي على ذكرها لاحقاً بإذن اللـه.
وبناء على طلب أمّه المرحومة بترونلّة رفض المشاركة بالمربد التاسع، وبمهرجانات جرش الأردنيّة.. كما ألغى فكرة زيارة اليمن من رأسه، وقد أخبر الشرفي بذلك في إحدى مكالماتهما الهاتفيّة.
أخيراً، أحب أن أخبركم أن الشرفي قد خضع، منذ عدة سنوات، لعمليّة جراحية كبرى في القلب، ولكنه قبل دخول غرفة العمليّات في أحد المستشفيات الإلمانية، إتصل بشربل ليخبره أن العمليّة خطيرة، وقد تكون المرّة الأخيرة التي يكلّمه بها، ويعبّر عن حبّه وامتنانه لأشرف صديق عرفه. وما عليكم سوى أن تتصوّروا حالة شربل بعيني النفسيّة عندما علـم بوضع الشرفي الصحي.. فراح يبكي، ويجري الإتصالات الهاتفيّة اليوميّة مع المستشفى الإلماني، وكان المسؤولون فيه يخبرونه أن الشرفي ما زال في غرفة العناية الفائقة. إلى أن اتصل به الشرفي وأخبره أنه كان يسمع صوته، ولكنه كان عاجزاً عن الكلام. فانفرجت أسارير شربل وراح يضحك ويشكر اللـه تعالى على سلامة صديقه شاعر اليمن الأكبر محمد الشرفي
**