سمكة الشعر الإغترابي خارج محيطها

عام 1987، خرجت سمكة الشعر من محيطها الإغترابي، لتسبح في محيطها الأم. فلقد لبّى الشاعر شربل بعيني دعوة وزارة الثقافة العراقية للمشاركة بمهرجان المربد الشعري الثامن، وكانت المرّة الأولى التي يعود بها إلى وطنه العربي بعد هجرته الأولى عن لبنان عام 1971.
وبما أنني أدوّن تاريخاً أدبيّاً في الإغتراب، وجب عليّ أن أذكر أن الأديب جاد الحاج قد يكون أوَّل من لفت أنظار المشرفين على مهرجانات المربد الشعريّة إلى شعر شربل بعيني، فقد كتب في مجلّة الدستور اللندنيّة الصادرة في 7 أيلول 1987، ما يلي
"إلتقيت شاعراً في سدني ـ أستراليا إسمه شربل بعيني. ذكّرني بجنس من الملائكة اعتقدته مفقوداً من زمان. شاعر دائم الإقبال والبشر والتفاؤل. برغم غضبه وحنقه ليس حاقداً، وبرغم غربته أليف، طيّب، وصاحب معشر
ويكتب شربل بتلقائيّة وكيفما أراد، بدون هواجس ولا ذرّة تردد. كأن الشعر فمه، وهل رأيت من يجامل فمه؟
أقترح على المشرفين على مهرجانات الشعر العربي دعوته للمشاركة، فلديه لون يذكّرنا بزمن الهجرة الأولى وعصر النهضة
ونظراً لأهميّة شربل بعيني في الأدب المهجري، فقد ودّعه كبار الأدباء والشعراء بكلمات مؤثرة لا تقدر أن تمحوها الذاكرة، مهما تلاعبت بها عواصف الغربة. فلقد كتب الأديب عصمت الأيّوبي في جريدة النهار ـ العدد 565، الصادرة في 12/11/1987، ما يلي
"السندباد مسافر إلى بغداد، إلى بلد الرشيد ومنارة المجد التليد. هوّذا الشاعر شربل بعيني يثوثّب، يستعدّ، يتهيّأ، يخاف، يتهيّب، لأنه ليس في زيارة عادية. إنه على موعد مع مهرجانات المربد الشعريّة، والدعوة، وإن كانت باسم شربل بعيني، إلاّ أنها لا تعنيه وحده، إنها تعني جميع أبناء الجالية العربية في هذه القارّة. وبالأحرى، فإنها موجّهة إلى أدبنا المهجري في الصميم، إلى كرامتنا القوميّة، إلى حركتنا الثقافيّة في هذه البلاد".
وكتب الأستاذ كامل المر، رئيس رابطة إحياء التراث العربي في أستراليا، في جريدة صدى لبنان، العدد 573، الصادرة في 24/11/1987، ما يلي:
"في البدء كان الكلمة، وقد كانت الكلمة مثقلة بالمسؤوليّة منذ مهدها، منذ طفولة الكلام على لسان البشر. هذه المسؤولية التي ارتقت بالإنسان ليصبح "إلهاً" في "القمط"، وعهدنا بك يا شربل خير من يحمل مسؤوليّة الكلمة المسؤولة.
هناك في "المربد" يا صديقي، حيث الكلام يغربل وينخل ويوزن بموازين أدق من موازين الذهب، سترجح كفّة الكلام الصادر عن ذات قيمة مسؤولة لـم يمنعها التشرّد، أو الإغتراب، أو السجن، عن أن تكون الذات القيّمة التي إليها تشخص أنظار الناس، ومن وهج لهيبها تستمد الشعوب نار ثورتها".
أمّا الشاعر المرحوم نعيم خوري فقد حمّله وصايا كثيرة إلى الأمة العربيّة، في مقال نشره في جريدة صدى لبنان، العدد 572، الصادرة في 17/11/1987، اخترت منها ما يلي:
"يا شربل.. في طريقك إلى المربد تذكّر أنك شاعر بساط الريح طوع جناحيك، وقباب السماء قناطر لقدميك. لعينيك تتراقص النجيمات، وفي حناياك تتغلغل الشمس. على كفّيك تنبسط الأبعاد، وفوق كتفيك ينشلح تاريخ طويل. كما في طيرانك، كذلك في شعرك، أنت دوماً تحلّق. تطلّ من دنيا ليست كدنيانا، وتنسكب شلالات لـم تخطر ببال، وتسرح في أخيلتنا كما لـم يسرح خيال، تشيع فيها الحب والثقة والتمرّد.
يا شربل.. في طريقك إلى المربد تذكّر أنك لست من النخبة المصابة بمرض الطليعة، أو ظاهرة الريادة، ولوثة الإنحراف، بل أنك صوت يدوي كما الرعد، ويقظة تتوثّب كما البرق، وأنك أنت ضمير هذه الجالية المتوهّج، وقلبها الذي يحبّ الحياة لأنه أقوى من الموت".
ولكي لا أطيل عليكم سأنهي كلمات الوداع بأبيات زجليّة للشاعر المرحوم زين الحسن، نشرها بتاريخ 24/11/1987، في جريدة صدى لبنان، العدد 573:
يا شربل بعيني بهالمشوار
وحياة سر محبّتك يا جار
مش وحدك مسافر على بغداد
اللي مرافقينك بالتمنّي كتار
منهم نعيم وكامل وفؤاد
وعصمت وزين العاجز الختيار
والوالده.. وإخوانك الأمجاد
والصّحافه وعصبة الشعّار
يا بن مجدليّا الوفي المعتاد
تغازل عروس الشعر ليل نهار
بهالمرحله خلّي الغزل ع حياد
وعالج قضيّة شعب مجدو انهار
مش رايح تغنّي بفرح وعياد
ولا رايح تأمّن عروس الدّار
رايح على المربد رسول بلاد
شعبها معلّق مصيرو فيك
يا إبن تربتها الأمين البار
إذا قلت إن شربل بعيني هو أول شاعر مهجري في أستراليا يدعى إلى أعلى قمّة شعريّة في العالـم العربي، لا بل في العالـم أجمع، أكون قد ردّدت ما قالـه غيري في ذلك الحين.
وإذا قلت إن قصيدة شربل "أرض العراق.. أتيتك" قد هزّت المربد الشعري، أكون قد ردّدت ما قالـه الشاعر العراقي الأب يوسف السعيد، ونشرته جريدة صدى لبنان في عددها الصادر في 15/12/1987:
"مبارك هو شربل الذي هزّ اليوم ألفي شاعر في مربد بغداد الثامن".
وأعتقد أن التركيبة "الشربليّة" للقصيدة هي التي ساهمت في هزّ المربد الشعري، فلقد حاك أبياتها الرائعة باللغتين الفصحى والعاميّة، ضارباً عرض الحائط بكل التنبيهات التي سمعها من أن الشعر العامي مرفوض تماماً في "المربد"، ومع ذلك طعّم قصيدته بأبيات زجلية من التراث اللبناني، دون أن يصيب بناء قصيدته أي خلل موسيقي أو لغوي.. ودون أن تتنافر المدارس الشعرية المختلفة التي استعان بها. فبعد أن ناجى، كمغترب، أرض العراق، قال لها:
فيا أمّي..
بغربٍ ضمّني طفلاً
تركتكِ أنتِ "سيّدتي"
ونشر الضَّاد أمنيتي
وفوقَ شراعِ أسفاري
كتبتُ كلامَ أغنيتي:
هيهات يا بو الزلف
عيني يا مولَيّا
بغداد هيّي القلب
ولبنان عينيَّا..
وبطريقة فنيّة رائعة، دمج شربل الشعر الفصيح المموسق بالزجل العامي وبالشعر الكلاسيكي الموزون المقفّى على الطريقة الخليليّة، دون أن ينشّز موسيقيّاً، وكأنه يريد أن يثبت صحّة كلامه: "الشعر هو الشاعر لغة وموسيقى":
لبنانُ، يا بغدادُ، كَم سنةٍ
يقتاتُ من أكباده الألـمُ
هل ينتهي الإنسانُ في وطنٍ
كانت تناغي أرضه القيَمُ
أعداؤه الأوغادُ همّهُمُ
أن يُسكِرَ المستنقعاتِ دمُ
أوصافهُم، إن شئتِ أكتبها
كي تعلمي كم يخجلُ القلـمُ
إلى أن يسخر من الأوزان الشعريّة في زمن ضاعت به كل الأوزان الإنسانيّة والثقافيّة والقوميّة والأخلاقيّة:
مستفعلُن مستفعلُن فَعِلُنٌ
تفعيلةٌ ترديدها سـأَمُ
تجترّنا الأوزانُ حاديَةً
والشّعبُ في أبدانه السّقَمُ
مَنْ ذا يقيسُ الشعرَ في زمنٍ
يرتابُ من ألوانهِ العلـمُ
القصيدة طويلة جداً، ومن يريد الإطلاع عليها، أدلّه على ديوان كيف أينعت السنابل؟، إذ أن المجال ضيّق لنشرها كاملة.
وكما قال الأب الدكتور يوسف السعيد، فلقد هزّت هذه القصيدة المربد الثامن، وراح التلفزيون العراقي يعمل على بثّها يوميّاً بعد نشراته الإخباريّة، كما انهالت على الشاعر بعيني تعليقات كبار النقّاد والشعراء العرب التي نشرتها جريدة صدى لبنان بتاريخ 15/12/1987، وما زال يحتفظ بها بأرشيفه، وبخط أيديهم أيضاً.
عن أسلوب القصيدة وموضوعها، قال الشاعر الموريتاني عبد اللـه بونه: "القصيدة قمّة في الروعة، أسلوباً وموضوعاً".
وعن تفرّد شربل بلونه الشعري، قال الصحفي اليمني أحمد الأشول: "شربل بعيني.. أثبت حقاً أن لونه الشعري يختلف ويتفرّد بميزة ما هنا في المربد".
أمّا عن إلقاء شربل المميّز، فقد قال الشاعر العراقي عبد الخالق سرسام: "الشيء الرائع حقاً أن شربل بعيني ألقى القصيدة مرّتين في آن واحد، مرةً بيديه ومرةً بلسانه".
ولكي يعطي الناقد اللبناني المرحوم نسيب نمر القصيدة حقّها، شبّهها بلؤلؤة نادرة: "قصيدة الشاعر المهجري شربل بعيني في المربد الثامن من القصائد الرائعة الجامعة بين الحنين والحب، وبين الواقع والتخييل، ما يجعلها لؤلؤة في الشعر المهجري المعاصر والشعر العربي الحديث بأسره".
ورغم أن الشاعر الموريتاني محمد ظافر ولد أحمدو لـم يستمع إلى إلقاء القصيدة، إلاّ أنه أبدى رأيه بها بعد أن قرأها منشورة في مجلّة المربد، وأعجب بتركيبتها الشعرية الفريدة التي تكلّمت عنها سابقاً: "قصيدة الشاعر شربل بعيني، التي لـم يتح لي حضور إلقائها، ولكني قرأتها مكتوبة، كانت، في نظري، ذات شفافيّة رائعة، وهي تتوفّر على موسيقى داخليّة هامسة. والملفت للنظر فيها هو هذه التركيبة الطريفة المتأتيّة من المزج بين التفعيلة والبحر الشعري وبكارة العاميّة وجمالات الفصحى..".
ومن القصيدة الأولى، اكتشف البروفسور اليوغسلافي المستشرق رايد بوزوفيتش أن "شربل.. هو الشاعر الصارخ والمصارع من أجل الحقّ". كما أن الشاعر اللبناني سليمان أبو زيد اعترف أن "شربل بعيني يرفع رأس لبنان في أستراليا وفي كل مكان، وقد رفعه أمس بقصيدته العصماء في مربد بغداد أمام ألوف المستمعين المعجبين". وفي نفس الوقت اعتبره المثقّف العراقي إياد الزاملي "فاكهة المربد الوحيدة". واعترفت المسؤولة المربديّة أسيمة التويجري أنه "أجمل شخصيّة شاهدتها في حياتي، وألذ وأطعم شخصيّة شاعرية". كما همس الشاعر العراقي أبو تمام في أذنه: "لقد ملكت قلوب العراقيين يا شربل بعيني".
فإذا كانت قصيدة شربل قد أصابت الدكتور عصام حدّاد "عندما تحدّث عن غربته وقهره واحتراقه"، نجدها قد أصابت أيضاً الصحفي اليمني أحمد الأشول، فأجرى لقاءً مطوّلاً مع شربل، نشرته جريدة الثورة اليمنيّة بتاريخ 16/12/1987، تحت عنوان "القصيدة التي كلّفت أربعة آلاف دولار"، ومن عبارات شربل التي أبرزتها الثورة اليمنيّة كعناوين رئيسيّة في اللقاء، أختار:
ـ الشعر المهجري تعمّد بالألـم، وانصهر في أتون غربة أعطته الحريّة.
ـ لغة المعاجم مرفوضة في زمن يصعب فيه التقاط الأنفاس.
ـ كي يصبح الوطن العربي نموذجيّاً يتوجّب عليه استرجاع جميع أبنائه.
ـ المربد.. منبر الكلمة الحرّة، والشاعر يصبح محظوظاً متى دعي إليه.
ـ من حقّ الشعر المهجري أن يمثّل بوفد أدبي كامل.
ـ لا أتوخّى خيراً من نقّادنا الأشاوس لدفع أدبنا المهجري.
ـ أجبرت على الرحيل بعد أن بدأت أحذّر من الحرب الآتية.
وكما يقول المثل الشعبي: "من الصعب جدّاً أن تكتمل فرحة أحد"، فما أن حطّت طائرة عودته في مطار سيدني، حتّى حدث ما لـم يكن بحسبان شربل، فلقد صادر الإنتربول الأسترالي حقائبه، وطلب منه التوجّه إلى مكتبه المختص بحماية أمن الدولة. هناك، تطلّع أحد الضبّاط الكبار بشربل وسأله:
ـ هل حزمت أمتعتك بنفسك في بغداد؟
ـ أجل..
ـ هل أنت متأكّد من ذلك؟
ـ لقد زارني العديد من المودّعين، ولكن حقائبي كانت مقفلة.
ـ إذن، عليك أن تقول لنا من درّبك في العراق.. نحن نعرف أن القنّاص المحترف لا يقتل طريدته إلاّ إذا ارتدى بذلته العسكريّة.. فمن هي الشخصيّة التي تنوي اغتيالها في أستراليا؟..
ـ ماذا تقولون؟!.. أنا معلّم مدرسة ولست قنّاصاً كما تعتقدون.
هنا، مدّ الضابط يده إلى حقيبة شربل، وأخرج منها بذلة عسكريّة كانوا قد أهدوها له كتذكار من الجيش العراقي، وصاح:
ـ وهذه البذلة العسكريّة من أين جئت بها؟
ـ إنها هديّة من الجيش العراقي. وبإمكانكم أن تحتفظوا بها.
ـ أتريدنا أن نصدّقك؟
ـ هذه صورتي وأنا أرتديها في العراق.. فإذا أردتـم أن تحتفظوا بالصورة أيضاً لا مانع عندي، ولكن دعوني أخرج، فلقد تأخّرت كثيراً، وأمّي تنتظرني على أحر من الجمر.
ويعترف شربل أن تأخّره ثلاث ساعات عن الخروج من مطار سيدني، هو الذي سبّب داء السكّري لوالدته. وهو الذي منعه من المشاركة بأي مهرجان أدبي في الوطن العربي قد يدعى إليه. وكيف يشارك، وقد بقي هاتفه تحت المراقبة مدّة طويلة من الزمن؟!.
بقي أن أذكر أن شربل هو الّذي افتتح بث إذاعة "المربد" باسم ألفي شاعر وناقد، وشكر الحكومة والشعب العراقي لاستضافة أكبر مهرجان أدبي تحت عين الشمس.
**