رفعت السعيد والإعتراف بالواقع الواقعي

لقد استشهدت، من قبل، بكلمات خالدة قالها أستاذ التاريخ في الجامعة الأميركيّة في القاهرة الدكتور رفعت السعيد.. دون أن أغوص في تفاصيل لقاءاته بشربل بعيني، أو أن أنبش رسائله المودعة في أرشيفه الملآن بالدرر التاريخيّة.. والمنظّم بطريقة تعجز عنها الدول.
ومقصدي من كل ذلك، هو أن أخصص له فصلاً كاملاً، نظراً لأهميّته الأدبيّة والإعلاميّة والسياسية في مصر. فهو، بالإضافة إلى وظيفته السابقة، رئيس مجلس إدارة جريدة الأهالي، وأمين عام حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي.. وعضو مجلس الشورى المصري.. وصاحب مؤلفات أدبيّة وتاريخيّة لا حصر لها.
عام 1993، منحت رابطة إحياء التراث العربي الدكتور رفعت السعيد جائزة جبران العالميّة، فما كان منه إلاّ أن بادلنا الإعجاب بالمثل، فحمل حقائبه وحطّ بيننا.
إثر وصوله إلى مطار سيدني، اجتمعت المعارضة المصريّة لاستقباله، كما اجتمع موظفو السلك الدبلوماسي المصري في أستراليا، ولـم يغب منهم أحد على ما أعتقد. هناك، بدأت المنافسة الشديدة بينهم. كل طرف يريد أن يأخذ الدكتور السعيد لينام عنده، أو ليكون مسؤولاً عن زيارته التاريخيّة تلك. فساد هرج ومرج، وعلا الصراخ حتى أصبح من الصعب أن يسمع الواحد صوته. فإذا بصوت جهوري يرتفع عالياً، ويطغي على كل الأصوات، ويطلب من الجميع الصمت.. بعدها قال للدكتور رفعت:
ـ أنت ضيف الجالية العربيّة في أستراليا، وكما ترى فالجميع يحبّونك.. ولكن القرار الأخير يعود لك.. وكما تقرّر أنت ننفّذ نحن.. شاء من شاء وأبى من أبى.. مع من تريد أن تذهب يا دكتور؟.
فاختار الدكتور رفعت الذهاب مع أعضاء السلك الدبلوماسي المصري، لأسباب ذكرها لنا ولا داعي لذكرها الآن، شرط أن يقيم في أحد فنادق سيدني الفخمة، وعلى حسابه الخاص بالطبع.
أخبرني هذه الحادثة مَن كان وراء زيارة رفعت إلى سيدني، حضرة الزميل أنطوني ولسن، يوم كنّا نتلاقى معاً في اجتماعات رابطة إحياء التراث العربي، قبل تقديم استقالتينا من عضويتها لأسباب شخصيّة قد أفصح عنها في المستقبل القريب بإذن اللـه.
صاحب ذلك الصوت الجهوري، والموقف الصحيح، الذي أوقع الرهبة في قلوب المتخاصمين على استضافة الدكتور السعيد، كان شربل بعيني. فأعجب رفعت، منذ ذلك الحين، بشجاعته، وتوطّدت بينهما أواصر صداقة حميمة أقرب ما تكون إلى الوله!.. وها هو يذكّره، إثر وصوله إلى القاهرة، بتلك الحادثة:
"يا شربل
محبّتي لك ولكم بلا حدود.
زرت بلاداً كثيرة. جبت العالـم طولاً وعرضاً، لكن سيدني تعلّقت بالقلب، سرت في شراييني ورفضت أن تغادر:
وما حبّ الديار شغفنَ قلبي
ولكن حب من سكن الديارا
فما حيلتي!!.. ولـم أزل أستعيد ذكرى أيام حلوة، وصدرك الفتيّ يتحدّى العالـم، مقتحماً كل من أمامك، وأنا أحبّ المقتحمين.
أتمنّى أن تكونوا جميعاً بخير، ومستمتعين بحياة حلوة في بلد حلو، حلو بكم أنتم.
يا سيّدي.. أحوالي أنا لا بأس بها. ولكنّ مناكفتي للمتأسلمين تتصاعد، وهم مغتاظون، وكلّما ازدادوا غيظاً امتلأ القلب بسعادة غريبة. هل هي نزعة شريرة عندي؟.. أم هو العشق للوطن والناس؟.. أم هو العهد الذي قطعته على نفسي أمامك؟.. لـم أقله لك.. لـم أحوّله إلى كلمات.. ولكن عندما تأمّلت ملامحك الشجيّة، وبسمتك الصاخبة، وصخبك المتّزن، وتحدّيك المترفّع عن كل ما يغري.. عاهدت النفس أن أواصل لأكون مثلك.
مع محبّتي.. أسكبها تحت أقدامكم انتظاراً ليوم آتي فيه لأرتمي في أحضانك وأنال بركتك"
والملفت حقّاً، أن جميع رسائل الدكتور رفعت السعيد المرسلة لشربل بعيني بدون تواريخ.. وكأن أستاذ التاريخ المتمرّس لا يؤمن بتأريخ رسائله، حتى لا يكون بينه وبين شربل فاصل زمني.
وكما ذكرت سابقاً، فالمحبّة التي جمعت رفعت بشربل تخطّت حدودها، تماماً كمحبّة نزار قبّاني لشربل، وأصبحت ولهاً، وها هو يعبّر عن ولهه الغامر، في هذه الرسالة المقتضبة السريعة، كما لـم يعبّر صديق من قبل:
"العزيز شربل..
محبّتي بغير حدود.. وكلّها لا تكفي.. إلى درجة أن (ليلاك) سوف تشعر بالغيرة لو عرفت وقاست ـ بمعنى القياس وليس القسوة ـ مقياس هذه المحبّة".
ألـم أقل لكم، أن الجميع اعترفوا بمحبة شربل بعيني لهم، وبمحبّتهم لشربل بعيني، فأرجو أن لا يلومني أحد إذا جاهرت بمحبّتي للأمير، ودافعت عن تاجه، وكرّمته كما كرّم العديد من كبار أمتّه، ومعظم زملائه في الغربة.
ورغـم جهل الدكتور رفعت باللهجة اللبنانيّة، كونه مصريّاً، إلاّ أنه اصطحب معه في الطائرة قصيدة شربل بعيني الشهيرة قرف، التي وصفها البعض (بالشعر المرحاضي)، لأنهم لـم يفهموا معناها، ولـم يلتقطوا أبعادها الإنسانيّة والتثقيفيّة والإجتماعيّة، وإن كتبت بلسانهم. وها هو الدكتور السعيد يأتي على ذكرها في هذه الرسالة:
"يا شربل..
أفصح يا فتى.. ماذا فعلتم؟!.. الأيام التي قضيتها معكم غيّرتني، نقلت وجداني من مكان لآخر. عندما تواريتم في المطار عن ناظريّ، أحسست أنني أترك الوطن متّجهاً إلى الغربة. فقلوبكم وعواطفكم نسجت وطناً حبيباً وحانياً. لست أبالغ، لقد أصبح الأمر مختلطاً!.. هل تصنع المودّة هذا القدر من الإنتقال الوجداني؟
لقد غيّرتموني، وأشعلتم عواطفي، وهي التي اعتادت على الحياد الصّارم، وأعدتـم إليها دفء الطفولة الحانية المتخلّصة من تراكمات الفعل القاسي القادر على أن يثلـم، حد السكّين، العواطف، فيجعلها عاجزة عن أن تقطع حواجز النفس لتنطلق.
فماذا فعلتم بي؟.. في الأفلام المصرية تصرخ الفتاة التي ضحكوا عليها قائلة: "شرّبوني حاجة صفراء.. وسكرت". فماذا سقيتموني حتى أسكر بعطر محبّتكم، وأظل معلّقاً بسمائكم، مشتاقاً إلى جلساتكم، وإلى جرس ضحكاتكم.
اصطحبت معي في الطّائرة "القرف". أي عنوان هذا؟ ذكّرني برواية لي إسمها "البصقة"، تعهّد النّاشر أن يوزّع معها مناديل ورقيّة.
لكن "القرف" يتجسّد داخلنا عندما تضع أيدينا عليه. ببساطة، تمدّ يدك، تسحب يدنا اللاهيّة أو المتلاهيّة، وتضعها في نار الحقيقة. تحرق صمتنا بالحقيقة. فواصل يا عزيزي إحراقنا.. فنحن نستحقّ أكثـر حتّى نتحرّك، ونقول ما يجب أن يقال، ونفعل ما يجب أن يفعل.
أحتاج إلى تواصلك، فاكتب. أكتب شعراً أو نثراً، أو حتى إبعث داخل مغلّف واحدة من ضحكاتك المنطلقة، التي تبدو وكأنك قد فتحت أمامها كل بوّابات قلبك".
كلام صادق كهذا، يعيدنا إلى عبارات صادقة أيضاً، خطّها قلـم مداده المجد، ونبراسه خدمة مغتربيه، وتكريم مبدعيه، إنه قلـم الأديب الرئيس جوزيف حايك القائل: "إن الأستاذ بعيني قلّده المفكّرون والأدباء والشعراء وأسياد التراث الحضاري والفكري، ومنهم الحكومة اللبنانيّة، أكثر من 20 من الأوسمة والميداليّات المذهّبة عربون إجلال وإكبار لمستواه الأدبي الرفيع".
وصدّقوني أن كل الأوسمة المذهّبة التي حصل عليها شاعرنا ما كانت لتأتي إليه لولا شهادات هؤلاء العظماء الذين التقاهـم، والذين اعترفوا جهاراً بمستواه الأدبي الخارق، وأن لا أحد مثله، منذ عهد الرابطة القلميّة، أعاد للأدب العربي عزّه، في عالـم الإغتراب.
ما أن علـم الدكتور رفعت السعيد باختيار صديقه شربل بعيني "أمير الأدباء اللبنانيين في عالـم الإنتشار" من قبل المجلس القاري للجامعة اللبنانية الثقافيّة في العالـم، الذي يرأسه الأديب المهجري المعروف جوزيف حايك، حتى أرسل له فاكساً مستعجلاً يقول فيه:
" الأخ العزيز شربل بعيني
لـم يضف المجلس القاري للجامعة الثقافيّة في العالـم أكثـر من أنّه اعترف بواقع واقعيّ، معترف به من جميع من يعرفون فضلك وإبداعك وشموخك.
متمنيّاً لك دوام العطاء.. تقبّل تحيّتي ومحبّتي لك وللعزيزة ليلى.. وإلى اللقاء".
القاهرة ـ 29/11/2000
وهذه هي المرّة الأولى التي ننشر بها تاريخ رسالة وصلت منه، كونها وصلت عن طريق الفاكس، والفاكس يؤرّخ تلقائياً.
وكما نفهم من رسالته، فإن هذا الرجل العظيـم، الذي تحمي حياته الحكومة المصريّة على مدار الساعة، يعترف بفضل صديقه شربل بعيني الأدبي والفكري، رغـم بعد المسافة بينهما. بينـما نجد أن بعض الأدباء والشعراء المقيمين بيننا، لا ينكرون الفضل فحسب، بل يحاولون التخلّص من صاحبه بأيّة طريقة كانت.
صحيح أن عددهم قليل، ولكنهم يشوّهون صورتنا في الخارج، تلك الصورة المشرقة التي حاول شربل أن يبرزها أمام أعين الجميع. فإذا نجح شاعر منّا نجح هو، وإذا أبدع أديب مهجري أبدع هو.. وما مطالبته المستمرّة لرابطة إحياء التراث العربي، يوم كان أمين سرّها، بإعطاء الجبرانيين القدماء أحقيّة اختيار الجبرانيين الجدد، إلاّ دليل واضح على اهتمامه بتوصيل أدبنا إلى الخارج. ولكن أعضاء الرابطة، وأنا واحد منهم، لـم يفهموا قصده في ذلك الوقت، فصوّتوا ضد مشروعه، ويا ليتنا لـم نفعل. إذ أنّ مشروعاً كهذا يزيح عن الرابطة مسؤوليّة اختيار الجبرانيين، وكم أوقعته هذه المسؤوليّة بمشاكل عديدة مع أصدقائه الطامعين بالجائزة.. وفي نفس الوقت تتفاعل الرابطة سنوياً مع عباقرة كرّمتهم، ولكن السنوات الطويلة وهموم الحياة أبعدتهم عنها، وأبعدتها عنهم. ولكانت ضمّتهم إليها من حيث لا يدرون، فكبرت بهم وكبروا بها، قبل أن يصبحوا ذكرى، أو قبل أن تمتد يد المزاجيّة وتلغي أحدهم، كي لا أقول نصفهم، لا سمح اللـه.
وها هو الدكتور رفعت السعيد يوصي صديقه شربل بنقل محبّته لجميع أعضاء الرابطة، وإن كان قد سمّى البعض منهم.. تماماً كما أوصاه نزار قبّاني، وعصام حدّاد، ومحمد الشرفي، وعبد الوهّاب البيّاتي، ومحمد زهير الباشا ونعمان حرب، وجورج شدياق، وعبد اللطيف اليونس وغيرهم. كلّهم أحبّوا الرابطة، وكلّهم أصبحوا ذكريات.. ولهذا أعترف بندمي لعدم تصويتي لصالح مشروع شربل الريادي. ولنقرأ معاً وصيّة حبيبنا الدكتور رفعت لشربل:
"هل أطلب منك شيئاً؟ طبعاً لن أستطيع الكتابة للجميع، حتى العناوين ليست عندي، فابعث بمحبّتي وإعجابي وتقديري وحبّي للأحبّاء فؤاد نمّور، وكامل المر، وإيلي ناصيف.. هم وحريمهم وأولادهم.. دفء مودتهم ما زال وسيظل يربكني".
عندما خسرت الأمة العربيّة شاعرها الأكبر نزار قبّاني، قرّر شربل أن يخلّد ذكراه بعدد خاص من مجلة ليلى التي يملكها، فأرسل له الدكتور رفعت كلمة رائعة هي "بعض من دين واجب الأداء.. لنزار ولك" على حد تعبيره. وإليكم بعض ما كتب:
".. ويذهب نزار قبّاني، فهل يتبقّى لنا شيء من شعر أو فنّ؟!
يذهب الذي استطاع أن يطوّع اللغة، وأن يجعل من الكلمات أنغاماً، ومن الآهات ألحاناً.
يذهب الذي قال فسكت الجميع، وسكت فلـم يترك مجالاً لأي قول ولأي شعر.."
ومن يعتقد أنني شذَذت عن الموضوع الرئيسي، ودخلت في موضوع آخر، أخبره أنني ما نشرت رثاء رفعت لنزار إلاّ لأنشر ما جاء قبله من وفاء، قل مثيله، لشربل. فالكلمة التي أرسلها لمجلّة ليلى هي بعض من دين واجب الأداء لنزار ولشربل.. أي أنها نقطة صغيرة من بحر وفاء هذا الرجل العربي المثقل بالتواضع، القابض على زمام الأمور السياسية في مصر، والغارق حتّى أذنيه في القراءة والكتابة. فلقد أخبرني شربل إثر رجوعه من القاهرة، بعد لقائه برفعت، أن هذا الأخير لا يضيّع دقيقة واحدة بدون قراءة، لذلك تجد سيّارته أشبه ما تكون بمكتبة عامّة. وأين العجب في ذلك؟.. وقد اعترف دكتورنا السعيد بإحدى رسائله لشربل أنّه حمل معه في الطائرة ديوانه قرف.. ومن يدري فقد يكون قد حمل معه دزينة كتب أخرى لـم يفصح عنها، وحوّل الطائرة أيضاً إلى مكتبة عامّة. العلـم عند اللـه.
لقد زار الدكتور رفعت السعيد أستراليا عدّة زيارات خاطفة، ورغم ضيق وقته، كان يعطي شربل حصّة الأسد، المهم أن يراه، أن يدردش معه، وأن يصيح بلهجته المصريّة المحبّبة، قبل دخول المنزل: إحنا هنا يا شربل.. فين إنتَ يا وادّ؟
وما أن يعود لمصر، حتى تطل إحدى رسائله، ونار الإشتياق تتأجّج في كل حرف منها، فلنقرأ ما يقول:
"يا شربل.. هل أقول وحشتني، أم أقول ماذا؟.. وقد انتفى كل قول وعجز عن التعبير. أم هل أقول شكراً وقد غمرتني بما لا يمكن أن تشكره كلمات؟!
أم أقول يا بختك.. فقد اخترت أجمل وأرق نساء الأرض شريكة ورفيقة وقرّة عين؟
أم أقول إنني مشتاق.. عاجز عن الاستقرار هنا بارتياح بعد كلّ ما أحدثته في سيدني وملبورن من حنان وحنين؟
أرسلت لك رسالة سابقة هل وصلت؟ لكن ها أنا ألاحقك حتى لا تشكو من بريد مصر أو من متلقّي بريدها.
تحيّاتي إلى ليلى، وخالص شكري وشوقي.. كذلك الوالدة.. قل لها لـم أرَ حماة تحب زوجة إبنها كما تفعل. لقد انتهزت فرصة اختلائي بها لتعرب لي عن حبّ، بل ما هو أكثر من حبّ لليلى.. يا بختها.
أشواقي بلا حدود.. وكذلك محبّتي وإلى اللقاء".
بربكم، أليس رفعت السعيد مدرسة بالحب والوفاء والتواضع؟.. فلماذا لا نقتدي به، كي نقطف المجد في غربة لا ترينا سوى السراب؟.
رفعت السعيد، الباحث التاريخي، والمناضل الوطني الذي لـم يبقَ سجن في مصر إلاّ ودخله.. وقد يكون أصغر مناضل بالتاريخ العالمي دخل سجناً ولـم يحلق ذقنه بعد.. يوصينا بالمحبّة، تماماً كالناصري.. فلماذا لا نتعظ؟ ولماذا لا نتعلّم من الكبار كيفيّة التواضع، وأننا بالمحبّة وحدها نتمكّن من تحويل صحراء غربتنا إلى حديقة غنّاء؟..
رفعت السعيد جنّد حياته وقلمه للدفاع عن الحقّ.. وشربل بعيني، كما قال الأديب جوزيف حايك، "جنّد حياته وقلمه لتربية الأجيال، وأغنى المكتبات العامّة بأدبه ومؤلّفاته".
أطال اللـه بعمر رفعت وجوزيف وشربل ليظلّوا قدوة لأجيالنا المقيمة والمغتربة
**