رسائل عبد الوهّاب البيّاتي

عام 1987، وفي المربد الشعري ببغداد، إلتقى شربل بعيني بأحد عمالقة الشعر العربي في العصر الحديث المرحوم عبد الوهّاب البيّاتي. وفور عودته من العراق أخبرنا في زاوية "قذائف ورد"، التي كان يكتبها أسبوعيّاً في النهار، قصّة لقائه بالبيّاتي، فقال بتاريخ 17/12/1987:
"كنت أجلس وحيداً في الباص، أمام فندق الشيراتون، أنتظر إقلاعه للذهاب إلى قاعة الرشيد الكبرى لألقي قصيدتي "أرض العراق .. أتيتك"، وفجأة صعد إليه رجل خمسيني يكلل الشيب مفرقيه، وجلس بجانبي وهو يبتسم لي، فقلت له بعد أن أذهلني وقاره:
ـ أللـه بالخير.. شربل بعيني من أستراليا.
ـ يا مرحبا.. عبد الوهّاب البيّاتي من العراق.
ـ أنت عبد الوهّاب البيّاتي.. أللـه كـم أنا مشتاق لرؤيتك والتحدث إليك.. وها أنت تجلس بقربي على أهون سبيل.
وبعد أخذ ورد، قال له شربل:
ـ على الأمّة العربيّة واجب تكريمك، فلماذا كل هذا التأخير؟
ـ (........)
ـ سأرسل لك ما سأكتبه عنك في النهار الأوسترالي.
ـ ولمن هذه الصحيفة؟
ـ للأستاذ بطرس عنداري..
ـ إذن توجد نشاطات أدبية في أستراليا؟
ـ هناك رابطة إحياء التراث العربي التي توزّع "جائزة جبران العالميّة" كل عام، وهي تقيم الندوات الشهريّة لدراسة الأدب المقيم، ولتشجيع الأدب المهجري أيضاً..
ـ عظيم.. ها قد وصلنا"..
عبد الوهّاب البيّاتي يقول: ها قد وصلنا.. أي أنه أحسّ، ومن اللقاء الأول بشربل، أن هذا الرجل لا يلقي الكلام على عواهنه، بل أنه سيعمل من أجل تكريمه في أستراليا. وهذا ما فعله شربل حال وصوله إلى بلاد الكنغر. ولنقرأ معاً رسالته إلى البيّاتي المؤرّخة في السادس عشر من آذار 1988:
"حضرة الشاعر العربي الكبير الأستاذ عبد الوهّاب البيّاتي المحترم
تحيّة أدبيّة صادقة وبعد،
لقد استلمت كتبك ببهجة لا توصف، وأطلعت عليها رئيس رابطة إحياء التراث العربي في أستراليا الاستاذ كامل المر، فأعجب بها كثيراً، وقرّر أن تدخل برنامج الرابطة لهذه السنة.
كما أن الدكتورة سمر العطّار بدأت بتدريس أدبك في جامعة سيدني، وهذا بالطبع ما يسرّني أنا، لأن عطاءك الشعري لا يمكن أن نقف حياله مكتوفي الأيدي، خاصّة وأننا نعيش الحريّة كاملة في أستراليا، وهذه هي النعمة الوحيدة التي حصلنا عليها في غربتنا.
شاعري الكبير.. أعرف تماماً أنك عشت في لبنان مدة من الزمن، وأنك تفهم لهجتنا العاميّة، لذلك تجرّأت وأرسلت لك مجموعة من دواويني المنشورة باللهجة اللبنانية".
وفي الرابع عشر من شهر نيسان 1988، أرسل البيّاتي هذه الرسالة لشربل:
"الأخ العزيز الشاعر الأستاذ شربل بعيني
تحيّاتي ومحبتي.. وصلتني رسالتك المؤرخة 16/3/1988، قبل أيام قليلة، ومعها مجموعة من مؤلفاتك الشعريّة، وبعض ما كتب عنك، وقصاصة من جريدة صدى لبنان الصادرة في سيدني.
شكراً على مشاعرك الطيّبة وهداياك التي تؤكّد نشاطك الشعري العميم في ديار الغربة، ومحاولاتك التغلّب على الغربة بالكتابة التي هي نعمة نادرة. توقّفت كثيراً عند رباعيّتك الرائعة:
سكران وحدي بغربتي سكران
ومسكّر بوابي بوجّ الناس
بحاكي كراسي البيت والحيطان
وبصير إتخانق أنا والكاس
تحيّاتي إلى الأستاذ كامل المر رئيس رابطة إحياء التراث العربي في أستراليا، وإلى الدكتورة سمر العطّار. مع شكري وحبّي. متمنيّاً لك مزيداً من العافية والنشاط الشعري".
وبعد أشهر قليلة، أي في أواخر حزيران 1988، أقامت رابطة إحياء التراث العربي ندوة تكريميّة للشاعر عبد الوهّاب البيّاتي، اشترك بها الاستاذ كامل المر، الدكتورة سمر العطار، الاستاذ عصمت الأيوبي، المربي فؤاد نمور، وشربل بعيني الذي ألقى رائعته "البيّاتي.. الحلم الراجع"، التي قالت عنها جريدة القبس الكويتية الصادرة بتاريخ 13 أيلول 1988 بأنها استقراء لأعمال البيّاتي الشعرية.. وإليكم التعليق:
"أما قصيدة الشاعر اللبناني شربل بعيني المكتوبة باللغة المحكيّة، ففيها استقراء لأعمال البيّاتي الشعريّة والنفاذ من خلالها إلى وحدة الشاعر وغربته بين عبيد المال والباحثين عن الذهب في دكاكين السياسة والأدب، كما تتحدّث القصيدة عن أخوّة الشعراء الحقيقيين، وأن مجد الشاعر الحقيقي، هي مملكة الشعر المتحصّنة ضد الموت والتعاسة والترهات التي تمزّق القلب".
أما البيّاتي فقد قال في رسالة أرسلها لشربل بتاريخ 14/9/1988:
"وقد قرأت أول ما قرأت قصيدتك الرائعة (البيّاتي.. الحلم الراجع)، وأنتظر الآن شريط الفيديو لكي أستمع إليها بصوتك. لا أعرف كيف أشكرك وأشكر الأساتذة: الدكتورة سمر العطّار، والاستاذ كامل المر رئيس رابطة إحياء التراث العربي، والأستاذ فؤاد نمور، والاستاذ عصمت الأيّوبي".
وبما أن الدكتورة سمر العطّار من القلائل الذين يعترفون بالفضل، وبالتواصل الأدبي، فلقد أرسلت لشربل رسالة بتاريخ 17 حزيران 1988، تشكره فيها على إعارته لها كتب البيّاتي. فلنقرأ بعض المقاطع من رسالة هذه الأديبة العظيمة:
"عزيزي شربل:
ألف شكر على إعارتك لي كتب البيّاتي. ماذا أفعل من دونك؟؟
هل تعرف أحداً يملك أشعار في المنفى، وتجربتي الشعريّة؟ الكتاب الأوّل ينفعني لأنني سأتحدّث عن موضوع النفي في شعر البيّاتي، والثاني، أعتقد أنه سيرة ذاتية للشاعر، وإن كنت لست متأكّدة.
على كل حال لن يكون موضوعي كاملاً، لأنني لـم أطلع على كل ما كتبه البيّاتي، وكل ما كتب عنه".
وبعد أسبوعين، أي في 4/10/1988، استلم شربل رسالة أخرى من البيّاتي يقول فيها:
"الصديق العزيز الشاعر المبدع الاستاذ شربل بعيني المحترم.
تحياتي ومحبتي.. وصلني بالأمس كتاب مشوار مع شربل بعيني للأستاذ كامل المر، وبدأت بقراءته، وقد سرّني وأفرحني أن شاعريتك تنال مثل هذا الإهتمام الذي تستحقّه (شاعراً وإنساناً)، وأن مشوار الاستاذ كامل المر معك ومع شعرك كان شهادة عادلة إنسانيّة في زمن كثر فيه المزوّرون والأدعياء والمزيّفون.
قرأت الحاشية التي كتبتها في حاشية (الفوتوكوبي) لمقالة الدكتورة سمر العطّار المنشورة في الدستور.. وأقول لك، ايّها الصديق الرائع، إن ندوتكم كانت تمثّل ذروة الموقف الأدبي والإنساني في تكريم الثقافة العربيّة، وذروة الموقف الوطني التقدّمي في وجوه صنّاع الظلام.
كتبت إليك قبل هذه الرسالة رسالتين: الأولى شكرتك فيها على إرسال الصحف المهجريّة، والثانية: أرسلت لك فيها صورة عن المقالة التي كتبها أحد الأصدقاء منشورة في جريدة القبس في طبعتها الدوليّة، وهي كافية للرد على السؤال (لماذا....؟)".
رسائل البيّاتي إلى شربل بعيني كثيرة، لا مجال لنشرها الآن، ولكنني سأكتفي بالقليل منها ولسان حالي يردّد: حرام أن تبقى هذه الرسائل محجوبة عن أعين القراء العرب.. وأعتقد أن شربل بعيني قد ارتكب جريمة كبرى، من حيث لا يدري، لأنه أبقاها في أرشيفه، كما أبقى رسائل الأخرين، دون أن يطلقها في النور.
وهل أجمل من هذه الرسالة المعبّرة التي أرسلها البيّاتي، بتاريخ 24/10/1988، من مدريد، يوم كان موظّفاً في السفارة العراقيّة، لصديقه العزيز "الشاعر المبدع شربل بعيني"، وفيها اعتراف صريح منه بشاعرية شربل بعيني الفذّة:
"الصديق العزيز الشاعر المبدع الأستاذ شربل بعيني المحترم
تحيّاتي وموّدتي.. وصلتني رسالتك المؤرخة 7/10/1988، ووصلني كذلك شريط الفيديو مع رسالة موقّعة من الأستاذ كامل المرّ والأستاذ الأيّوبي، فشكراً لك ولهما وللرابطة على تشريفي وتكريمي بمنحي "جـائزة جبـران الأدبيّة العالميّة" لعام 1988.
استمعت إلى شريط الفيديو، وبخاصة إلى قصيدتك الرائعة، بعد أن كنت قد قرأتها مرّات عديدة، ولقد ازداد إعجابي بعد أن استطعت من خلال إلقائك الخلاّب المثير المؤثر العميق الوصول إلى الضفاف الشعريّة الإنسانيّة التي تكتنز بها القصيدة، والتي تنطوي على ألـم ثوري عاصف.
إنّك شاعر حقيقي، وصوتك جزء لا يتجزّأ من شاعريتك الفذّة. أكرّر شكري وتقديري ومحبّتي".
لقد اعترف نزار قبّاني في إحدى رسائله، أن شربل بعيني قرأ كلمته أحسن منه، في حفل تسليم جائزة جبران، وكان نجم الإحتفال. وها هو البيّاتي يعترف أيضاً أنه استطاع من خلال إلقاء شربل الخلاّب المثير المؤثر العميق، الوصول إلى الضفاف الشعريّة الإنسانيّة التي تكتنز بها قصيدته "البيّاتي .. الحلم الراجع"، والتي تنطوي على ألـم ثوري عاصف. كما أعترف أن صوت شربل بعيني جزء لا يتجزّأ من شاعريته الفذّة.
وقد لا أذيع سرّاً إذا قلت إن المطران المرحوم عبده خليفة، الراعي الأسبق للأبرشية المارونيّة في أستراليا، قد قال في منزل شربل بعيني، وعلى مسمع الجميع: "الويل لمن يلقي كلمته قبل شربل بعيني، والويل لمن يلقيها بعده. فالأول.. ينساه الجمهور بعد أن يكون قد استمع لشربل، والثاني.. قد لا ينصت إليه كونه انتشى بإلقاء شربل".
إذن، لـم يكتفِ شربل بندوة تكريم البيّاتي التي كان السبب في إقامتها، ولا بمد الجسور بينه وبين رابطة لـم يكن قد انتسب إليها بعد.. بل عمل على منحه جائزة جبران العالمية من قبل الرابطة.
عام 1988، أعلن رئيس رابطة إحياء التراث العربي في أستراليا الأستاذ كامل المر، باسم شهداء الكلمة في كل مكان، عن منح الشاعر العراقي عبد الوهّاب البيّاتي جائزة جبران العالميّة. فانفرجت أسارير شربل بعيني، وقرّر الإنتساب للرابطة عن اقتناع مقنع، وعن إيمان قوي برسالتها الأدبيّة الإنسانيّة الساميّة من أجل النهوض بأدبنا المهجري، ومد الجسور بينه وبين الأدب المقيم. وهذا ما عمل له شربل طوال مدّة انتسابه للرابطة، وما زال يعمل له الآن بعد استقالته منها.
كما انفرجت أسارير عبد الوهّاب البيّاتي أيضاً عند استلامه رسالة رسميّة بهذا الخصوص، فأرسل بدوره رسالة شكر إلى رئيس الرابطة الأستاذ كامل المر، وأمين سرّها، يومذاك، الأستاذ عصمت الأيّوبي. وقد نشرت جريدة صدى لبنان تلك الرسالة في عددها الصادر بتاريخ 29/11/1988، وفيها يقول:
" تحياتي ومودتي
استلمت رسالة الرابطة التي تحمل توقيعكما الكريمين، وأنا أشعر بالفخر والإعتزاز بالمواقف القومية الانسانيّة الرائعة التي تقومون بها تكريماً لأدباء أمتنا العربية الأحياء والشهداء منهم. وأن الرسالة الأدبيّة ـ حسب تعبيركم ـ التي أخذت الرابطة مهمة الإضطلاع بها ونشر لوائها في أقصى أصقاع الدنيا، هي مفخرة ورسالة إنسانيّة عظمى، ستنير الطريق أمام باقي الجاليات العربيّة في أوروبا وأميركا وأفريقيا، وتحثّها على الإقتداء بكم. وإن فخري ليزداد عندما تكرمون الشعر العربي من خلال تكريمي في أمسية حارّة أثارت إعجاب الذين قرأوا جريدة القبس الدولي في كل أرجاء المعمورة، وإنه لشرف عظيم لي أن أمنح جائزة جبران العالميّة من رابطتكم المناضلة من أجل غد عربي مشرق. فشكراً لكما".
وبعد هذه الرسالة التي أرسلها البيّاتي للرابطة، راحت رسائله لشربل بعيني تنهمر كالورود في عرس الكلمة. فأرسل له رسالة من مدريد بتاريخ 18/12/1988، أنشر منها:
"بعد عودتي من رحلة طويلة شملت مصر والعراق وهولندا، أكتب إليك لكي أقدّم أخلص التهاني بالعام الجديد، متمنياً لك مزيداً من الإبداع والصحة والسعادة، ومهنّئاً بصدور كتاب شربل بعيني: ملاح يبحث عن اللـه للأستاذ محمد زهير الباشا، الذي أضاف زهرة جديدة في بستان إبداعك.
وكم كنت أتمنى أن أرسل كلمة لتقرأ في احتفال تسليم جائزة جبران، ولكنّ عودتي من السفر، التي كانت في تاريخ 15/12/88، حالت دون هذه الأمنية العزيزة على النفس، إذ كان الوقت قد فات.
إحتفلت على طريقتي الخاصّة في مساء السبت الموافق 17/12/88، فقرأت كتاب النبي لجبران، وباحتفالي هذا أكون قد كنت معكم.
أنتظر كافّة المعلومات المتعلّقة باحتفالكم وشريط الفيديو لكي أعيش معكم، كما كان الأمر في حفل التكريم. لك حبي وتمنيّاتي بالصحة والعافية، ومزيداً من مقاومة الغربة بشعركم". وكما كان يمنّي النفس باستضافة نزار قبّاني في منزله، هكذا منّى شربل بعيني النفس باستضافة عبد الوهّاب البياتي، ولكن الأمنيتين لـم تتحققا لظروف مختلفة. وكان المرحوم نزار قد شرح ظروفه الصحيّة لشربل، وها هو المرحوم عبد الوهّاب يشرح ظروفه الماديّة لصديقه برسالة أرسلها له بتاريخ 17/1/1989.. وصدّقوني أن شربل لو علـم قبل توزيع الجائزة بظروف صديقه الماديّة الصعبة، لكان عمل المستحيل من أجل استضافته، ولكن البيّاتي أسرّ له بها بعد أسابيع من توزيع الجائزة، وإليكم ما كتب:
"شكراً على تهنئتك ورسالتك الرائعة المسكونة بالنور والشعر والحب.. وشكراً لرابطة إحياء التراث العربي في أستراليا على مبادرتها بمنحي جائزة جبران، ولكل الأصدقاء الأعزّاء في الرابطة، ولقراءتك رسالتي الأخيرة إلى الرابطة واستلامك الجائزة، وكم كنت أتمنى أن أكون معكم في هذه المناسبة المباركة، ولكن رحلتي إلى مصر والعراق وهولندا قضت على البقيّة الباقيّة من إمكانياتي الماديّة التي كنت أستطيع بها أن أكون معكم.
الميداليّة وشهادة الجائزة وربطة العنق (وهي هديتك) كانت عربوناً لرفاق الكلمة الصادقة الشريفة، هذا العربون سيبقى رمزاً وعلامة وإشارة إلى أن الحب لن يموت، وثورة الشعر والإنسان لن تقهر.
تحياتي وسلامي وحبّي إلى الجميع، وإني سأبقى أنتظر إشاراتك الضوئية دائماً وأبداً".
روابط الصداقة التي جمعت بين شربل بعيني وعبد الوهّاب البيّاتي، تحوّلت فيما بعد إلى أخوّة حقيقيّة.. وإلى اندماج أدبي كامل.. أو بالأحرى إلى مشاركة عائليّة حميمة، وها هو عبد الوهّاب، وللمرة الأولى، يأتي على ذكر عائلته في رسالة أرسلها لشربل بتاريخ 9/5/1989، فيقول:
"أشكرك جداً على حسن اهتمامك، وقد أعجبني شريط الفيديو، وأعجب الأسرة حيث شاهدناه عدة مرات، وعشنا معكم تلك الأويقات الأدبيّة الرائعة".
وتمتيناً لتلك المشاركة العائليّة الحميمة، التي أرادها البيّاتي أن تتعمّق، أرسل لشربل رسالة مقتضبة وحزينة من كاليفورنيا، يقول فيها:
"أكتب إليك من كاليفورنيا، التي وصلت إليها من بغداد بسبب وفاة إبنتي (نادية) المقيمة هنا. في طي رسالتي هذه نص القصيدة المرثيّة".
وبالطبع، فقد أرسل له شربل رسالة تعزيّة، كتبها بدموع عينيه، وبلهيب غربته، وحمّلها حبّه الأخوي للوالد المفجوع.. فما كان من عبد الوهّاب البيّاتي إلاّ أن شكره برسالة رقيقة، مرفقة بكتاب ترجمه له الدكتور بسّام فرنجيّة وطبعته جامعة جورج تاون، إسمه حبّ وموت ونفي.. وإليكم فقرات منها:
"ألهمتني رسالتك الحزينة بعض العزاء، ففقدان إنسان عزيز في هذا الزمان البخيل لا يعوّض، وبخاصة إذا كان هذا الإنسان منك وإليك: ضياء عينك ومنارة حبّك".
وخلال وجوده في الولايات المتحدة الأميركيّة طلب من الدكتور بسّام فرنجيّة أن يراسل صديقه شربل في أستراليا، كيف لا، وقد حكى له الكثير عنه، فكتب الدكتور فرنجيّة بتاريخ 21/5/1991 ما يلي:
"الأخ العزيز الأستاذ الشاعر شربل بعيني المحترم
أطيب تحيّة.. فقد طلب منّي الأستاذ البيّاتي أن أرسل هذه المجموعة من الأخبار عنه وعن الكتاب الجديد، ويسرني أن أرسلها إليك مع هذه الرسالة. كما أنني أتشرّف بالتعرّف إليك، فقد سمعت عنك كثيراً. أحييك من واشنطن مع فائق الإحترام".
ولـم يتأخّر شربل بعيني لحظة واحدة بمدّ أسلاك حبّه بين سيدني وأميركا، تنفيذاً لرغبة صديقه البيّاتي، فأرسل مجموعة من كتبه للدكتور بسام فرنجيّة، وبعض الأشرطة الغنائية، ولمحة عن نشاطنا الأدبي في أستراليا. وقد شكره الدكتور فرنجيّة برسالة أرسلها له بتاريخ 22/7/1991، وفيها يقول:
"أخي شربل..
أطيب تحيّة إليك. أشكرك. فقد وصلني طرد بريدي فيه ما يقرب من عشرين ديوان شعري ودراسة لك/عنك. وأنا أبارك مثل هذا الإنتاج الغزير الذي وضعته بفخر في مكتبتي، فاحتلّ مكاناً بارزاً. فأنت طاقة على العطاء، وأيّة طاقة!..
تصفحت قصاصات الجرائد الأسترالية، التي وصلت مع الطرد، ورأيت صورك وصور المجموعة العاملة التي تحيي التراث العربي في المهجر، فألقيت عليكم جميعاً تحيّة سلام وحبّ وإعجاب، فكم نحن بحاجة إلى مثل هذا الإحياء، فما تفعلونه اليوم، واجب حضاري وقومي أنتم أهل له، قدوة وشعلة.
أشكرك، أخي شربل، لكل ما أرسلته لي، وأعدك أنني سأقرأه كلّه. وأشكرك للشريط الرائع الذي ما زلت أستمع إليه، وقد وضعته في آلة التسجيل التي هي فوق مكتب دراستي، وأنا أدرس وأستمع إلى الطفلة ريما الياس وهي تغني شربل بعيني.
أشكرك للمقالة عن البيّاتي والكتاب والتي تفضّلت مشكوراً بالإهتمام بها، ونشرها على هذا الشكل الجميل.
أحييك يا شربل، فقد طوّقتني بعواطف نبيلة فاضلة، أشعر بعجز ردّها".
وأعتقد جازماً أن البيّاتي كان مسروراً لهذا التواصل الأدبي بين شربل وبسّام. طالما أنه كان المخطط الأول له؟
وها هو يخبر صديقه شربل بأنه قرّر الإنتقال من مدريد إلى بغداد، ويتمنّى عليه، إذا زار بغداد، أن يتّصل به كي يواصلا مشوارهما الأدبي.. فتصوّروا عظمة هذا الشاعر العبقري.. وتأمّلوا تواضعه، واقرأوا معي رسالته التي أرسلها لشربل في الحادي والعشرين من شهر شباط 1990:
"بعد أسبوع من تاريخ كتابة هذه الرسالة إليك، سأكون قد غادرت إسبانيا نهائيّاً، عائداً، إلى الوطن..
إذا ما زرت بغداد، أيّها الصديق العزيز، فالرجاء الإتصال بي حتّى نواصل مشوارنا الشعري. مع تحيّاتي إلى جميع الأصدقاء".
وبالطبع، فقد حزفت من الرسالة عنوان البيّاتي في بغداد، لأن لا داعي لذكره، بعد أن توفّاه اللـه وخسرته الأمة العربيّة جمعاء.
والملفت للنظر هو صداقة شربل بعيني لشاعرين لدودين في آن واحد، هما نزار قبّاني وعبد الوهّاب البيّاتي، دون أن يطلب أحدهما نصرة شربل على غريمه، رغم معرفتهما بتلك الصداقة الثلاثية المشتركة، فلقد كانا، رحمهما اللـه، شاعرين كبيرين، وعدويّن شريفين، وصديقين وفيين لشربل بعيني. فكم نحن بحاجة لأخذ الموعظة والعبرة منهما في غربتنا هذه.
**