إبن الأرزة الخالدة

"إنه ابن الأرزة الخالدة، ابن مدينة الشمس الأبديّة، ابن أولئك الذين عبروا اليمّ، قديماً، لبناء علاقات إنسانيّة مع المجتمع البشري. هذا هو الشاعر المرهف الاحساس شربل بعيني، الذي شبّ وترعرع في مجدليّا، القرية اللبنانية المتواضعة".
بهذه العبارات قدّمت شربل، يوم أجريت معه لقاء صحفياً نشرته جريدة صوت المغترب في عددها 839، الصادر بتاريخ 27 حزيران 1985. ومن هذا اللقاء وغيره من المصادر، سأستقي معلوماتي حول رحلة شاعرنا مع الحياة والكلمة.
ولد شربل بعيني في العاشر من شهر شباط سنة 1951، في قرية مجدليّا، وهي بلدة شماليّة، كما جاء في كتاب موسوعة الهجرة اللبنانيّة إلى أستراليا، الكتاب الأول، بداية الهجرة وتطورها ـ 2001) لقنصل لبنان العام السابق في ولاية فيكتوريا، الدكتور طنّوس عون، الصفحة 197: "تفصل بين مدينتيْ طرابلس وزغرتا، وتعتبر امتداداً جغرافياً لهما. إنّها بوّابة قضاء زغرتا... ترتفع عن سطح البحر 100م، أي أنها تشرف على البحر من مكان قريب منه.. عدد سكّانها اليوم حوالي 20 ألف نسمة.. رغم أن عدد أبنائها الأصليين لا يتجاوز الألفي نسمة، بمن فيهم المهاجرون".
وفي الكتاب ذاته، صفحة 198، أخبرنا الدكتور عون أن شربل سركيس بعيني قد وصل إلى أستراليا في أواخر الستينات وأوائل السبعينات. ومن المؤكّد أنه وصلها في أواخر عام 1971. كما خصّه في الصفحة 200 بهذه الإلتفاتة الرائعة:
"وفي حقل الأدب والشعر برز اسم شربل سركيس بعيني، وأصدر أكثر من 20 ديواناً شعرياً، ترجمت بمعظمها إلى الإنكليزيّة والفرنسيّة والإسبانيّة، وسميّ شاعر المهجر الأول، وسيف الأدب المهجري، وحاز على جوائز عديدة".
هو الرابع بين إخوته الستّة: أنطوان، جورج، جوزاف، شربل، ميشال ومرسال. متزوّج من السيّدة ليلى إبنة السيّد والسيّدة عصمت وفريحة الأيّوبي. تربّى على يديّ والديه سركيس وبترونلّه بعيني تربية وطنيّة صادقة، وتلقّى علومه الإبتدائيّة والثانويّة في مدينة طرابلس الفيحاء، التي خلّدها بالعديد من قصائده.
نقر الشعر على طبلة شربل لأول مرّة، في شهر أيار عام 1962. وكما هو معروف عند المسحيين، فإن شهر أيار هو شهر أمّنا مريم، وكانت بنات أخويّتها يخصّصن يوماً كاملاً لكل بيت من بيوت مجدليا. يحملن إليه شخص السيدة العذراء، وسط الصلاوات والترانيم والزغاريد. وعندما جاء دور منزل الطفل شربل، الذي لـم يبلغ بعد ربيعه التاسع، رفض أن تدخل العذراء عتبة بيت أهله، ما لـم يستقبلها بأول قصيدة شعريّة كتبها وألقاها، هي أقرب إلى النثر منها إلى الشعر.. ومع ذلك لاقت التصفيق والتهنئة، مما شجعه على مواصلة الكتابة والنشر.
نشر المئات من القصائد والمقالات في الصحف والمجلاّت اللبنانيّة، منها: النهار، الأنوار، البيرق، لسان الحال، التلغراف، الجمهوريّة، ألف ليلة وليلة، السينما والعجائب، الدبّور وغيرها. ولـم يبلغ بعد السابعة عشرة من عمره.
ديوانه الأول مراهقة ـ 1968، أحدث ضجّة إعلاميّة كبرى بسبب إباحيّته اللامحدودة. منهم من مدحه كتريز رعد في ملحق البيرق البيروتيّة، العدد 1288، الصادر بتاريخ 11 تشرين الثاني 1968:
"إلى شربل بعيني..
أحببتك لأنك جريء،
ما أروعك يا شاعري..
إنّي أراك بين السطور
تبتسم، تثور..
"مراهقة".. إسم جميل
أطلقته على كتابك الجميل
أعترف أنّك سحرتني
سيطرت عليّ تماماً
جعلتني أبني قصوراً من الأحلام
بالقرب من أبياتك الشعريّة.
قرأت "مراهقة" عدّة مرّات متتاليّة
دون أن أملّ..
وكيف أملّ من السحر والجمال
من اللّذة والخيال؟!
أحببتك.. أقولها بحرارة".
ومنهم من هاجمه بشدّة كالدكتور توني سابا، الاسم المستعار لأحد مستشاري رؤساء الجمهوريّة اللبنانيّة، في مجلّة الساخر البيروتيّة، العدد السادس، حزيران 1970:
"أخبروني أن مسرح فاروق بحاجة إلى شاعر (ليقف) ويلقي بين المشاهد قصيدة يبقي فيها الحضور على اتصال بما يقدّم من برامج رائعة. هل تذهب يا شربل؟ أم أن شعرك لا ينفع في الوقوف مثله في القرفصة أو النوم".
وأعتقد أن هذا المقطع الذي اخترته من مقال توني، يختزل باقي المقاطع، ويبرز تطاولها الشخصي الحادّ على شربل. وقد تضاعف هذا التطاول حين نشر شربل عام 1969 قصيدته (القدر كذّاب، القدر مجرم)، في مجلّة صباح الخير، التي كانت تصدر كملحق أسبوعي لجريدة البيرق البيروتيّة. فثارت ثائرة الأب نعمة اللـه ك. ونشر رداً على القصيدة في المجلّة ذاتها، العدد 116، الصادر في 13 تشرين الأول 1969:
"أعزائي،
لقد قرأت مؤخّراً في ملحقكم الحبيب قصيدة لشربل بعيني بعنوان (القدر كذّاب، القدر مجرم)، وبعد مراجعتها عدّة مرّات والتمعّن بها، وجدتها تزخر بالإلحاد ونكران وجود اللـه، والتهجّم على القديسين الأبرار، وجعل الإنسان سيد نفسه.
فمثلاً لو راجعنا عبارة (ركعت صلّي لإلـه ما عندو سما)، لوجدناها تنطوي على شكّ واضح وضوح الشمس بوجود اللـه تعالى. فالشاعر إنما يريد أن يبرهن أن إلهـه ليس له سماء، وكافّة الأديان تثبت أن اللـه في عرشه السماوي، وهذا التناقض يدعو إلى الشكّ. وحين يقول الشاعر:
أنا قدّيس
إصبعي بيضوي بليلات القدر
حملت الأرض
وبنفختي طفيت الشمس
وبروس صابيعي كمشت القمر
إنما يريد بقوله هذا أن يظهر الإنسان بمظهر القديس على الأرض، يقدر على فعل كل شيء، حتى على تسيير الكون حسب إرادته، وهذا عكس ما تعلّمه وتبشّر به الأديان السماويّة.
وأخيراً، يتجاسر ويقول شاعرنا العزيز:
الدني ما في لها نهايه
لها بدايه..
كذب..
نحنا بداية هالدني ونحنا النهايه.
هنا الطامة الكبرى، هنا الإلحاد.. كيف تنشر جريدة البيرق الغراء مثل هذه القصيدة؟ أو بالأحرى كيف يكتب شربل بعيني مثل هذه القصيدة؟ ونحن الذين كنّا نقدّره ونعتقده عكس ما أظهرته لنا قصيدته الجوفاء.
أين الإيمان؟ ولبنان معروف عنه إنه بلد الإيمان.. لا أدري.
سيّدنا يسوع المسيح يقول في إنجيله إن للحياة الدنيا نهاية وقيامة، وشربل بعيني يقول أن لا نهاية لهذه. فبربكم من نصدّق؟
أنترك كلام اللـه تعالى، لنسمع كلمات شاعر تصوّر له مخيّلته ما يشاء؟!
أرجو أن تنتبهوا لما قد تنطوي عليه مثل هذه القصائد من معانٍ وأفكار، تساعد على طرد الإيمان من قلوب شبابنا الطالع الضائع الأعمى، الذي ينقاد وراء كلّ شيء جديد. كما نرجو من الشاعر شربل بعيني أن يتجنّب مثل هذه المواضيع، وهذه القصائد، لأنها تسيء إلى سمعته وأدبه، وتدعونا إلى الشكّ بمسيحيّته".
الآن، بدأت أفهم لماذا لـم يغتظ شربل من مهاجمة البعض له في الغربة، ولماذا كان يضحك عندما كان يقرأ هجوماً عنيفاً عليه. فلقد اعتاد منذ بدايته الأدبيّة على تجرّع العلقم، دون أن يحرّك ساكناً. فإيمانه بربّه أقوى من ثرثرات كاهن. وإيمانه بأدبه أقوى من عنعنات ناقد. لذلك تابع مسيرته الأدبيّة دون الإلتفات إلى الوراء، ولسان حاله يردّد قصيدة علّقها كأيقونة في ديوانه قصائد ريفيّة:
يشزرونني بخبث..
يشكّكون بي وبأعمالي..
يطلقون حولي الشائعات،
ويثيرون غضب الأمواج،
وزورقي مبحر!!
ساريته مستقيمة.
أشرعته متينة.
وأخشابه مقطوعة من شجرة الثقة بالنفس،
التي لا تقتلعها رياح الثرثرة،
ولا تحطّم أفنانها أنواء الرذيلة.
زورقي..
سيصل بإذن اللـه،
لأنني على موعد مع التاريخ.
فإذا كان الدكتور توني سابا (بالتاء وليس بالطاء) قد صاح عام 1970:"وينك يا مار شربل؟"، بعد اطلاعه على باكورة أعمال شربل بعيني مراهقة. وإذا كان الأب نعمة اللـه ك. قد شكّك بمسيحيّة شربل عام 1969، بعد قراءته السريعة لقصيدة "القدر كذّاب، القدر مجرم". نجد أن الناقد المهجري ميشال حديّد، في مقدّمة الطبعة الرابعة لديوان مراهقة 1989، قد اعتبر شربل بعيني في كلّ ما كتب "ثائراً شجاعاً، داعياً إلى التغيير وتجاوز العقليّات السائدة والتقاليد الجامدة. ففي الغزل الإباحي، اضطر بعض النقّاد إلى الاستعانة بمار شربل مخلوف على شربل بعيني. وفي الشعر الوطني كان غرباله لا يرحم زعيماً ولا مسؤولاً ولا إقطاعيّاً. وفي شعره الصوفي ثار على رجال الدين ممن حولوا العبادة إلى مهنة للإرتزاق والتعيّش، وثار على الأساطير والخرافات الدينيّة التي مسخت الإنسان المؤمن، وقوّضت إمكاناته وقدراته على الإقلاع والتحرّر.
إن شعر شربل بعيني يبقى ثرثرة متى أفرغناه من ثوريّته الجامحة الملتهبة.. وحتى قصائده في مراهقة كانت في تلك (الأيام الستينيّات) دعوة جريئة إلى التحرّر الجنسي، مع تحفّظنا الشديد من خطورة تلك الدعوة، لأنها مبنيّة على الإنفعالات النفسيّة. وقد نجد أنفسنا مرغمين على التنازل عن (تحفّظنا الشديد)، لأننا أمام شاعر لا أمام عالـم فيزيائي أو كيميائي أو نفساني".
لقد دافع، يومذاك، رئيس حزب الطبيعيّين في طرابلس الاستاذ حبيب تليجه عن شربل بعيني، وكان أول المدافعين عنه، ولكن ميشال حديّد تمكّن، بعد عشرين سنة ونيّف، من أن يصيب الأب نعمة اللـه ك. والدكتور توني سابا بحجر واحد، رشقه من خلف البحار ليعيد الاعتبار إلى شاعر رمته كلماته الثائرة خارج الوطن.
لقد نبّه شربل بأشعاره من الحرب الأهليّة اللبنانيّة، قبل وقوعها بعدّة سنوات، وبدلاً من أن تؤخذ صرخته على محمل الجدّ، راح البعض يسخر منه ومن أشعاره، ويدعوه إلى الإطمئنان. وخير دليل على ذلك مقال نشره الأستاذ أحمد السيّد في ملحق البيرق البيروتيّة، العدد 1310، الصادر في التاسع من كانون الأول 1969:
"قرأت في مجلّتكم الغرّاء قصيدة للشاعر شربل بعيني، وفيها يندب الأرزة ويخاف عليها من اللاشيء. لذا أردت أن أجيبه بهذه الكلمات النابعة من الصميم:
أرزتنا لن تئنّ.. لن تختلج. لأنها تعرف مقدار صمودها. تعرف أن لجذعها قوّة القدر، فعليه تحطّمت رؤوس أكبر الطامعين الغزاة.
لماذا تندبها يا شربل وتقول: بأن من أغصانها يحاك تابوت المجد؟ أفلا تدري بأنها هي المجد نفسه؟
أرزاتنا اعتادت مناخ الصدور، فمدّت جذورها حتى الأعماق، وكم من غبيّ جاهل لئيم أراد اقتلاعها فعجز، وارتد دامي اليدين والعينين.
هي نحن ونحن هي.. يجمع فيما بيننا رابط إلهي أزلي خالد خلود اللـه في عليائه. أنا لا أنكر عليك خوفك من الأحداث، بل العكس، أنا جد خائف أيضاً، ومع ذلك أنا جد متفائل.
لماذا نخاف؟ أو بالأحرى لماذا تخاف الأرزة، وهناك أناس نذروا أرواحهم لفدائها؟. تقول: هم قلائل.. ما هم، طالما أن إيمانهم بها قويّ راسخ رسوخ الأبد. تقول:
من أبنائها..
من الذين يتّقون الحرّ في أفيائها..
هذا ليس بمنطق.. فبإمكانك أن تجري إحصاء شاملاً في لبنان، وتطرح على كل فرد لبناني هذا السؤال: هل تحب الأرزة؟ وطبعاً سيجيبك الجميع: نعم.
إطمئن يا شربل بعيني إطمئن.. فلا داعي لخوفك".
وأجزم، بعد عقدين من الحرب اللبنانيّة اللئيمة، أن لا أحمد السيّد اطمأنّ، ولا جميع الذين طرح عليهم السؤال وشملهم الإحصاء. فلقد كان شربل بعيني على حقّ حين كتب عام 1969:
أرزتنا تئنّ، تختلج، تموتُ
أرزتنا التي سقيناها دماً
تختلج، تموتُ
يحاك من أفنانها للمجد.. تابوتُ
وكان أحمد السيّد على خطأ، رغم أسلوبه المقنع، حين قال: "إطمئن يا شربل إطمئن.. فلا داعي لخوفك".
لـم يعد الخوف مقتصراً على شربل بعيني وحده، بل امتدّ، في أيّامنا هذه، كالنار في الهشيم، ليشمل العالـم أجمع. فاربطوا أحزمتكم جيّداً قبل الإقلاع في متاهات هذه البشريّة الحاقدة.
**