لقائي الأول بشربل بعيني

في إحدى الجلسات الحميمة التي جمعتني بالدكتور رفعت السعيد في منزل الشاعر شربل بعيني، سمعت أستاذ التاريخ في الجامعة الأميركيّة في القاهرة يقول: "بإمكانك أن تزوّر كلّ شيء ما عدا التاريخ، فالتاريخ لا يرحم أحداً، ومن يغيّر حرفاً واحداً فيه، يضحك عليه التاريخ ويرذله إلى الأبد
ومن هذا المنطلق، رأيت أن أفلش أمام أعين الحقّ، أجمل ما قيل بأدب وشعر شربل بعيني، هذا الذي اختاره المجلس القاري للجامعة اللبنانيّة الثقافيّة في العالـم ـ قارة أميركا الشماليّة، أمير الأدباء والشعراء في عالـم الإنتشار اللبناني.
أكثير على شربل بعيني أن يلقبّه بقدموس الثاني، رئيس المجلس القاري للجامعة اللبنانية الثقافية في العالـم ـ قارّة أميركا الشمالية، حضرة الأديب المهجري المعروف جوزيف حايك، صاحب المؤلفّات العديدة، مثل:
ـ الأزمة اللبنانية، وموت الضمير العالـمي. (1988)
ـ لبنان.. الوطن النهائي. (1999)
ـ وطن الرسالات، ونصف لبنان المغترب. (2000)
وهو من لُقّب بأجمل الألقاب من قبل، دون أن يعترض عليها أحد؟.
ألـم يلقّبه طوني شربل الصحفي المهجري المعروف بسيف الأدب المهجري؟
ألـم يغدق عليه سكرتير رابطة إحياء التراث العربي يومذاك الأستاذ أيّوب محمّد أيّوب لقب شاعر المهجر الأوّل؟
ألـم تلقّبه الأديبة تريز حرب بشاعر الحنين وشاعر الغربة الطويلة؟
وأخيراً، وليس آخراً، ألـم يغدق عليه رئيس تحرير جريدة المستقبل الصحفي المهجري جوزاف خوري لقب (الجامعة الثقافية)؟
يكفي شربل بعيني فخراً أن يكون أوّل شاعر مهجري يدعى إلى المربد الشعري في العراق عام 1987، وأن يقع عليه الإختيار لافتتاح البث الإذاعي لمهرجان المربد باسم ألفي مدعو من كافة أقطار العالـم.
شربل بعيني، الذي قال عنه رئيس رابطة إحياء التراث العربي الاستاذ كامل المر في كتابه مشوار مع شربل بعيني إنه "أهم وأجرأ شعراء العربيّة في وقتنا الراهن، ليس في المغترب الأوسترالي فحسب، بل على نطاق العالـم العربي أيضاً". يحق له أن يلقّب "بكبير أدباء موطن الأرز" لأن ما تركه من نتاج رائع، لن تتمكن من (إطفاء شمسه) أو (تحجيمه) جميع الأقلام الهوائيّة، المسيّرة حسب أمزجة أصحابها. فشربل بعيني لـم يتغيّر قيد شعرة منذ عرفته.. وقصائده بدأت تنتقل إلى لغات عديدة، وتدرّس في الجامعات، وتنشر في كتب عالميّة عديدة، آخرها قصيدته (تازمانيا) التي نُشرت في كتاب خيوط الشمس أنطولوجيا الشعر الأسترالي 2002 للشاعرة آن فيربيرن، التي أدخلته أيضاً جنّة كتابها حلم شعري في ظلال أرز الرب 2000، وترجمت وقرأت قصائده في مناسبات أدبيّة مختلفة.
إذن، فكل ما قيل في شربل وفي أشعاره، أصبح ملك التاريخ، وكل تلاعب به، أكاديمياً كان أم عشوائياً، مرفوض رفضاً باتاً، وسيرذله القارىء الواعي، قبل أن يرذله التاريخ نفسه.
المنافسة الأدبيّة حقّ، ولكن التغييب بسبب ضآلة الخبرة والمسح الطوبوغرافي غير مسموح به أكاديمياً. لا بل سيوقع صاحبه بلهيب مناقشات حادّة، قد لا ينقذه منها إلاّ إعادة التدقيق والتفتيش والتمحيص الأكاديمي، الذي يكره المزاجيّة ويدينها.
منذ مجيئي إلى أستراليا عام 1983، مروراً باستملاكي لجريدة صوت المغترب، وانتهاء بتفرّغي للقراءة، وصورة رفيق غربتي الشاعر شربل بعيني لـم تتبدّل على الإطلاق. لقد فتح لي قلبه قبل بيته، واستودعني أسراره، وأخبرني، والألـم يمزّق فؤاده، لماذا انقلب البعض عليه.. ولماذا قطع علاقته الشخصيّة بهم، دون أن يقلّل من قيمتهم الأدبيّة، أو أن يردّ على تهجّماتهم بتهجّمات مماثلة، قد تسيء إلى أدبنا المهجري وإلى وحدتنا في الغربة. كان يريدهم أن يتوقّفوا عن ثرثراثهم وحقدهم ومكائدهم، وأن ينضووا تحت لواء الأدب الاغترابي بكبرياء وعزّة نفس. وأن لا يسيّروا أقلامهم كما تسِيرُ رياحُ أهوائهم الشخصيّة. فإذا اقترب منهم أحد مدحوه، وإذا ابتعد عنهم شتموه وحذفوه. وأذكر كيف كان الشاعر نعيم خوري، رحمه اللـه، يقول لشربل بعيني، إثر كل تهجّم عليه: إيّاك أن تتدخّل، أتركهم عليّ.. إنهم أطفال صغار!.
عام 1984، كان عام التحوّل في حياتي، إذ شاءت الظروف أن أشتري جريدة صوت المغترب، من صاحبها الأستاذ جان سمعان، وأن أبدأ رحلتي مع المتاعب منذ ذلك الحين.
أيّام عملي في الجريدة، اخترت بعض أعدادها من الأرشيف، ورحت أتصفّحها، فوقع نظري على عبارة تقول: "شربل بعيني لـم يعد شاعراً فحسب، بل أصبح يمثّل تيّاراً أدبيّاً في المهجر".
فالتفت إلى الزميلة لور قزي وقلت لها:
ـ أنا لا أعرف من هو شربل بعيني، ولكنني أريدكم أن تعتنوا أكثر بإخراج زاويته الأسبوعيّة.
وذات يوم، وبينما كنت ماراً بصحبة الصديق محمد حسين العمري في أحد شوارع منطقة غرانفيل، همس محمد في أذني قائلاً:
ـ تعال أعرّفك بشربل بعيني.
فإذا بي أقف أمام شاب بهيّ الطلعة، بشوش الوجه، ذي صوت عالٍ. وبدون أدنى مجاملة قلت له:
ـ أنا إسمي رفيق غنّوم، اشتريت جريدة صوت المغترب، وأريدك أن تسمح لي بمتابعة نشر زاوية "من خزانة شربل بعيني" في جريدتي.
فإذا بصوته يهدر، وما زال يهدر، في أذنيّ:
ـ ستبقى زاويتي في جريدتك إلى أن تضجر منها يا أستاذ رفيق.
ولـم يكتفِ شربل بزاويته الأسبوعيّة، بل راح يزوّدني بأجمل روائعه الشعريّة، بالفصحى والعاميّة، مثل: كيف أينعت السنابل؟، لعنة اللـه علينا، دياب الشعب، عرسنا استقلال، دعوة إلى الجنون وغيرها. وكنت أعطيها حقّها من الإخراج الفني، ولا أبخل عليها بصفحات كاملة. وصدقّوني إذا قلت، إن صوت المغترب في كل مرّة كانت تنشر بها إحدى روائع شربل، كانت تباع عن بكرة أبيها. وكنت أتلقى الرسائل والمكالمات الهاتفيّة العديدة، التي تحمل الإعجاب والإطراء لتلك القصائد. كما أعترف للمرّة الأولى، أنني كنت أستلم، إثر نشر كل قصيدة، مبلغاً من المال، يطلب مني مرسله أن أشتري به علبة سيجار فاخر، أدخنّه ساعة فراغي. ناهيكم عن الهدايا الكثيرة التي كانت ترمى على مكتبي مكللة ببطاقات الشكر، التي ما زلت أحتفظ بها.
من هنا نقدر أن نستنتج مدى الألـم الذي كان يجتاح قلوب المهاجرين اللبنانيين والعرب في أستراليا، من جرّاء الحرب اللبنانيّة اللعينة. وفي نفس الوقت، بإمكاننا أن ندرك مدى الارتياح النفسي الذي كانت تسببه لهم قصائد شربل بعيني. إنّها معادلة بسيطة ولكنّها مهمّة لمن يدرس أدب شربل بعيني.
صحيح أن شربل لا يتقيّد بأوزان، أو بتفعيلات، أو ما شابه، ولكنه يتقيّد بموسيقاه الخاصّة، وبلغته الخاصة أيضاً. أليس هو القائل: "الشعر هو الشاعر لغة وموسيقى".
وأعتقد أن صوت المغترب، رغم خسارتي الماديّة بها، قد أعطتني الكثير من الربح في معرفة معادن الناس، ولولا هذا الربح لما تحوّلت معرفتي العابرة بشربل بعيني إلى صداقة حميمة ومتينة جداً، مكّنتني من التغلب على ضجر غربتي. فساعة تطلبني تجدني عند شربل بعيني أو تجده عندي، أشكو له همومي ويشكو لي همومه.. وأعتقد جازماً أنه لـم يخفِ عنّي شيئاً، كما أنني لـم أخفِ عنه شيئاً. كان صديقاً صادقاً، أحبّ الجميع، وضحّى من أجل الجميع. ولو رجع كل واحد منّا إلى ضميره، أي إلى اللـه، لاعترف في قرارة نفسه أن شربل بعيني لـم يؤذِ أحداً على الإطلاق، بل على العكس، عمل المستحيل من أجل مساعدة العديد من الأدباء والشعراء، وخاصة أولئك الذين رمتهم نيران الحرب خارج وطنهم، بغية التغلّب على غربتهم والتأقلم معها. وكنت أعجب باندفاعه اللامحدود من أجل مساعدة الآخرين، دون التطلّع إلى فائدة شخصيّة قد يجنيها من جرّاء ذلك. وإذا راجعنا العديد من المقالات التي نشرت حول أدبه، نجد أن الجميع يعترفون بمحبّة شربل بعيني لهم.
وصدق الأديب المهجري الكبير جوزيف حايك، الرئيس القاري للجامعة اللبنانيّة الثقافيّة في العالـم حين قال في صكّ الإمارة: "إن الأديب شربل بعيني قد وفّر بعطائه الأدبي والفكري والتربوي ما يوفّر للإنسانيّة أسباب العزّة والكرامة، فكانت أنشودته الحرف والكلمة، وكان الفكر الخلاّق يستوي على عرشه، وحدود أرضه قد ضاقت بطاقاته، فراح يوسّع حدوده إلى أقمار الدنيا، فاغترب عن لبنان إلى أستراليا في العام 1971". لأن هذا ما فعله شربل بعيني، باعتراف الجميع، خلال ثلاثين سنة من رحلة اغترابه القسري عن الوطن.
**