المطران يوسف مرعي وإمارة شربل بعيني

في العام 1990، حصل شربل بعيني على لقب "أمير الشعر المهجري" من شخصيّة دينيّة أدبيّة كبرى، زارت أستراليا، واطلعت على أدب شربل بعيني.. كما أنّها استمعت إليه وهو يلقي أشعاره.
ومع ذلك، أخفى شربل بعيني الخبر، ولـم ينشره في كتبه، أو يستغلّه لشهرته، رغم أن مانحه لا يستهان به، لا من الناحية الإجتماعيّة، ولا من الناحية الدينيّة، ولا من الناحية الأدبيّة، ولا من الناحية الإغترابيّة، إذ أنه ترك بلاده، مثلنا، يوم ترأس أبرشية مصر للموارنة. إنه المطران العلاّمة يوسف مرعي، صاحب أكثر من سبعين مؤلفاً في اللاهوت والفلسفة، والمرشد الروحي لراهبات العائلة المقدّسة المارونيّات.
وكان شربل بعيني قد التقاه عدّة مرّات، واستمع إليه، وأهداه كتبه، وأقام له وللسفير اللبناني الدكتور لطيف أبو الحسن حفلة تكريميّة في منزله، شارك فيها، كالعادة، العديد من كبار أدباء وشعراء الجالية.
كل القصائد والكلمات التي ألقيت يومئذ كانت أكثر من رائعة، ولكنني سأختار من بعضها أجمل الأبيات التي قيلت بشربل كي لا أطيل الموضوع:
قال الشاعر جورج منصور:
يا شربل.. كلّنا بلطفك سكارى
قبل ما نسكر بخمر الزّياره
بسيدني، كل شخص بيزور دارك
كأنّو زار من لبنان حاره
الدني بتمحل وما بتمحل فكارك
الوحي من إيدك بيمطر إشاره
بيادر شعرنا غمرت غمارك
مواسم حبّ من قلبك عصاره
عطيت كتير.. والموسم تبارك
يا سبحان الـ بيعطي بهالغزاره
مدري في قمر سهران جارك
مدري جبينك مشعشع مناره
سفير بلادنا ما كان زارك
لو ما للشعر بيتك سفاره
وقال الدكتور جميل الدويهي:
تصيّد الفجر بالأقلام شاعركم
ففي الشقائق من شريانه قبلُ
ولوّن الحقل عصفوراً وأطلقه
حتّى استفاق على أنغامه الرسلُ
هذا الأبيّ الّذي يمناه جدوله
هذا النبيّ الذي أقواله عملُ
يا شاعر الغربة السوداء من حجر
خلقت سحراً، وفاضت عندك الجملُ
وقال رئيس عصبة الزجل اللبناني الشاعر عصام ملكي:
هالبيت.. بيت الـ شربل المشهور
وإمّو.. الما فيها تعيش بغيابو
هوني الوعي والذوق.. هوني النّور
وهوني الحرف عم يلبس تيابو
وقال الشاعر المرحوم زين الحسن:
شربل بفكرو خشّ مملكة الخلود
ورجّع ع سيدني روح جبران النبي
وبلّش يجمّع من شذا عطر الورود
تا صبّ هيكل أبجديّه مرتّبه
وقال الشاعر المرحوم نعيم خوري:
غرّد.. كفاك تمزّقاً وتحسّرا
إنّي أحبّك أن تثور وتكفرا
وانهض ففي غليان فكرك لوعة
تشتاق أن تدوي وأن تتفجّرا
وكانت ألطف وأظرف قصيدة، تلك التي ألقاها الشاعر عصمت الأيّوبي، والتي يقول فيها:
شكراً لشاعرنا الدّاعي وأسرته
شكراً يقصّرُ عنه النطق والكتبُ
شكراً لمن حضروا.. شكراً لمن أكلوا
شكراً لمن طبخوا.. شكراً لمن سكبوا
لقد اكتفيت من المناسبة بالشعر كي لا أطيل الكلام، ولكنني، قبل أن أودّع المناسبة، أحب أن أطلب من الأخت الأديبة مي طبّاع، أن تضيف قصيدتَيْ الشاعر المرحوم نعيم خوري والدكتور جميل الدويهي إلى كتابها شربل بعيني قصيدة غنّتها القصائد، إذا أعيد طبعه، لأنني أعتبرهما من عيون الشعر، لا في المهجر فحسب، بل على مساحة الشعر العربي.
وعندما عاد أسقفنا العلاّمة يوسف مرعي إلى لبنان، أرسل بطاقة شكر إلى شربل، ننشر منها:
"مع أخلص مشاعر الشكر..
إلى أمير الشعر المهجري.. وعائلة بعيني العزيزة.. ووافر النعم والبركات".
إذن، فالإمارة أعطيت لشربل بعيني منذ زمن بعيد، دون أن يعمل، وهو القادر، على نشر اللقب وتعميمه.
وأين العجب في ذلك؟.. و"شربل بعيني شاعر العصر في المغتربات".. حسب شهادة والد الأدباء المهجريين، وناشر أدبهم في العالـم العربي، والمطّلع على سير الحركة الأدبيّة في كافّة المهاجر.. عنيت به الأديب السوري الكبير نعمان حرب، صاحب السلسلة الأدبيّة الشهيرة قبسات من الأدب المهجري. وإليكم شهادته التاريخيّة بشربل كما نشرت في مجلّة الثقافة السوريّة عام 1993:
"إنّني على صلة دائمة بأدباء وشعراء المهجر في كافّة أنحاء المعمورة، وأرى أن الشاعر شربل بعيني هو شاعر العصر في المغتربات، لا يوازيه أي أديب مهجري بغزارة الإنتاج الأدبي، ووضع مجهوده، وعبقريته، وماله، رهناً لإعلاء الأدب والفكر، وغرس الكلمة العربيّة في القلوب والنفوس، وبذل الذّات للحفاظ على ألق الحضارة العربيّة، وشدّ العلاقات والأواصر بين أبناء المغتربين وإخوتهم المقيمين".
والسؤال الذي يطرح نفسه بنفسه: لماذا لـم يخفِ شربل بعيني إمارته الجديدة كما أخفى إمارته القديمة؟.. أو بالأحرى، كما أخفى لقب "شاعر العصر في المغتربات" الذي توّجه أميراً على كافّة الشعراء العرب المغتربين، وليس على اللبنانيين فقط، كما جاء في صكّ إمارة المجلس القاري؟
الجواب على هذا السؤال يأتينا من رسالة الرئيس القاري للجامعة الاستاذ جوزيف حايك، التي يقول فيها:
"عزيزي الاستاذ بعيني،
البيان المرفق وزّعناه على الصحف، وقد صدر في النهار، كما أرسلته بواسطة الفاكس إلى جريدة الهيرالد عندكم، وأقترح أن توزّعوه على كل الصحف اللبنانيّة في أستراليا، والتفضّل بإيداعنا صورة عن كل جريدة تنشره.
شكراً.. وتكراراً تهانينا وتحيّاتنا".
بربكم، هل بإمكان شربل بعيني أن يخفي إمارته الجديدة، بعد توزيع الخبر، من قبل المجلس القاري، ونشره في الصحف الإغترابية، وإرساله إلينا بواسطة الفاكس؟.
هل بإمكانه أيضاً، أن يرفض طلب رئيس المجلس القاري للجامعة اللبنانية الثقافيّة في العالـم الأستاذ جوزيف حايك بتوزيع البيان على كل الصحف اللبنانيّة في أستراليا؟.
بالطبع لا.. وإلاّ، لكان "الأمير الثاني" اختفى في الأرشيف كَـ "الأمير الأول".. أو كَـ "شاعر العصر"!!.
وأنا لا ألوم شربل بعيني على إخفاء لقب "أمير الشعر المهجري" الذي أغدقه عليه سيادة المطران يوسف مرعي، وعدم إعطائه حقّه من الشهرة.. لأنني أعرف كم من المرّات سحبت منه الأوسمة التي منحته إيّاها الدول، دون أن يحرّك ساكناً، أو أن يتأفّف.
ففي العام 1989، منحه رئيس ولاية نيو ساوث ويلز السيّد نيك غراينر وساماً وطنياً تكريماً له على إنشاء مكتبة عامة، من ماله الخاص، في مركز تجمّع المسنّين العرب في بانشبول. وقد أطلق عليها التجمع إسم "مكتبة شربل بعيني".
وفي اليوم المحدّد لاستلام الوسام ذهب شربل إلى مكان الإحتفال، وبصحبته العديد من الأصدقاء، تتقدّمهم حضرة الأخت كونستانس باشا، رئيسة معهد سيّدة لبنان يومذاك. وكم كانت دهشته ودهشة التجمّع عظيمة، عندما وصلت جميع الأوسمة ما عدا وسام شربل. رغم الحملة الإعلاميّة التي قام بها التجمع للترويج للوسام، ورغم نشر الخبر في جميع الجرائد والإذاعات المهجريّة.
أين هو الوسام؟!.. تساءل الجميع بدهشة وألـم.. وراح رئيس تجمّع المسنين العرب السيّد راشد الحلاّب، يجري الإتصالات المكثّفة.. وكانت أجوبة المسؤولين تأتي إلى مسمعه متشابهة: سنرسل الوسام للشاعر بعيني بواسطة البريد. ولغاية الآن لـم يستلم شاعرنا الوسام.
ولكي يبرّر تجمّع المسنين موقفه من عدم وصول الوسام إلى شربل، طلب من نائب منطقة لاكمبا، يومذاك، السيّد ويز دافرون أن يرسل لشربل رسالة تقدير على خدماته للمسنين.. فكتب بالتاسع والعشرين من آذار 1989 ما يلي:
"عزيزي السيّد بعيني
لقد طلب منّي تجمّع المسنين العرب أن أنقل إليك وافر امتنانهم للخدمات التي قدّمتها للمسنين في مجتمعنا هذا.
ضروري جداً أن لا نهمل العجائز.. وفي نفس الوقت، هناك خدمات جليلة قدّمت لهم، دون أن يعلن عنها، رأينا من الواجب أن نشكركم عليها.
أريدك أن تعلـم أن خدماتك في سبيل الآخرين قد سجّلت لك.
أيضاً، أرجوك أن تقبل منّي شخصياً الشكر والتمنيّات".
كما أن التجمّع نشر بياناً في جميع الصحف المهجريّة، موجّهاً للشاعر شربل بعيني، أنقله هنا عن جريدة صدى لبنان، العدد 685، وإليكم ما جاء فيه: "نقولها هكذا، بدون تكليف ولا ألقاب.. لأنك حقاً صديق لتجمّع المسنين العرب ككل، وصديق لرئيس هذا التجمّع ومدير إعلامه، وقد كنت دائماً من السبّاقين في تشجيع التجمّع في كل عمل نافع يقوم به، وأنك لا تترك مناسبة إلا وتتحدّث وتثني على هذا التجمّع وإدارته. وإنها لشهادة بألف. ولكن هناك أمراً نريد أن يعلم الجميع بفضلك فيه، ألا وهو مكتبة المسنين العرب، التي كنت أنت سبب وجودها ومزوّدها بالكتب الأدبيّة والشعرية والثقافيّة القيّمة. فلـم تبخل عليها بأي من كتبك، ولـم تدخر وسعاً بتذكير أصدقائك الكتّاب والشعراء اللبنانيين والعرب في أن يهدوا هذه المكتبة من نتاجهم الأدبي والفكري والثقافي، حتى امتلأت رفوفها، وأصبح المسنون العرب يغرفون من معين ثقافتها الكثير، وأصبح الضجر، عدوّهم الأول، يتوارى بين صفحات كل كتاب يقرأونه.
إن التجمع أيها الشاعر المجدّد، الذي لا ينضب له معين، يتقدّم منك بالشكر الجزيل، ويعترف لك بالجميل.. ".
قلنا لشربل يومئذ: إنتبه، هناك من يحاربك في الجالية.
فأجابنا والإبتسامة تكلّل وجهه: ليس المهم أن استلم وساماً، بل المهم أنني رشّحت له من قبل أناس يحبّونني.
ومع أنني لا أعتقد أن الشاعر بعيني قد تعرّض للمحاربة في المرّة الثانية، كما تعرّض في المرّة الأولى، إلاّ أنني سآتي على ذكر ما حصل، فقط للتذكير لا غير. فلقد أعلن السيّد نبيل قدّومي عام 1993، وفي يوبيل شربل بعيني الفضي، أن هناك هديّة رمزيّة لشربل جاءته من الأخ الرئيس ياسر عرفات.. ستسلّم له في منزله. وأيضاً.. لـم يستلم شربل بعيني الهديّة الرمزيّة!..
لهذه الأسباب مجتمعة، راح شربل بعيني يخفي في أرشيفه كل ما يصله من تكريم وإطراء، حتى لا يُتعب أحداً، كما أتعب البعض خبرُ تكريمه من قبل المجلس القاري
**