عصام حدّاد وجائزة شربل بعيني

الدكتور عصام حداد، مدير معهد الأبجديّة في مدينة جبيل الأثرية، وصاحب العديد من المؤلّفات الأدبيّة والشعريّة الرائعة، يعتبر من أكثر الذين أحبّوا شربل بعيني، وكتبوا عنه، وكرّموه. ويكفي أنه أوجد جائزة سنويّة تحمل اسم شربل بعيني، وتوزّع على المتفوّقين من طلاّب معهده.. ليكون الأعظم في صداقته!!.
ومن كثرة حبّه له، لـم يتوقّف، منذ التقاه في المربد الشعري الثامن في بغداد عام 1987، من إيداع البريد إحدى رسائله المستعجلة لشربل. كما أنه لـم يترك وسيلة إعلاميّة لبنانيّة إلاّ وذكر بها اسم صديقه شربل بعيني.
وإذا كان الشاعر المرحوم نزار قبّاني، والدكتور رفعت السعيد قد أعلنا حبّهما لشربل على "صنوبر رسائلهما"، فإن عصام حدّاد قد أعلن "جنونه" بشربل بعيني على "صنوبر بيروت".
ولأن مقالات ومقابلات عصام الإذاعية والتلفزيونيّة عن شربل أصبحت معروفة، بعد أن نُشرت واطّلع عليها المقيمون والمغتربون، أجد لزاماً عليّ أن أطلع القرّاء على رسائله. وما أدراكم ما رسائله؟ إنها أشبه ما تكون بمحيط من الصفحات لا حدود جغرافية له. صحيح أنني سأختار القليل منها، ولكنني سأختار الأجمل.
كثيرون هم الذين يعتقدون أن الدكتور عصام حداد يعيش هنا في أستراليا، لأن أخباره ومقالاته الأدبيّة تملأ الصحف والمجلاّت المهجريّة. وإليكم هذه الطرفة التي تثبت صحّة ما أقول:
ذات يوم، زارني أحد الأصدقاء، فوجدني أقرأ في مجلّة أميرة. فسألني:
ـ لمن تقرأ؟..
فقلت:
ـ للدكتور عصام حدّاد.
وبدون أي تردد قال:
ـ هذا أحسن أديب في أستراليا.. إنّه يوزّع "جائزة شربل بعيني" كل سنة في "اليوكرانيان هول" في منطقة لدكمب".
وصدّقوني أنني لـم أصحّح معلوماته، لأن العديد من أبناء الجالية يعتقدون أن الدكتور عصام مغترب مثلهم. وهذا يعود للأثر الطيّب الذي تركه أثناء زيارته لأستراليا عام 1991، من أجل استلام جائزة جبران العالميّة.
لقد كان ألطف وأشرف شخصيّة أدبيّة زارت غربتنا هذه. ومن كان مثل الدكتور عصام، يصعب على المغتربين إرجاعه إلى الوطن، بعد أن يكون قد وقع بين أيديهم.
معظم رسائل عصام ـ إسمه الأصلي يوسف تيمناً بعمّه يوسف الحداد معلّم جبران ـ تبدأ هكذا: شربلي الحبيب، يا شربلنا، يا شربل الكل، يا عريس الشعراء. ومن هذه البداية بإمكاننا أن نقرأ النهاية.
وها أنا أفتتح موسم الغطس في محيط رسائله، بهذه الرسالة المؤرخة في 25/4/1988، التي كتبها فور رجوعه من العراق، والتي عادت إليه بعد شهرين من إرسالها، بسبب الأحوال الأمنيّة التي كانت مترديّة، يومذاك، في وطنه لبنان:
"شربلي الحبيب.. قد نكون وحدنا سريعي الإندماج قلباً بقلب. والأصح أنت المتفرّد بهذا الحبّ الآسر الذي ترعى به محبّيك..
من حين رجوعي إلى وطن "الغربة الطويلة"، وأنت ملء قلبي، وفكري، وقلمي. أرجو أن نواصل الرسائل.. وقد أذهلني توثّبك الدائـم إلى الأفضل، فكراً ووطنيّة وصفاء. ويا ليتني قربك لأساهم معك في عملك لأجل الفكر، ولأجل لبنان. ثق بوفائي الدائـم، وحبّي الدائم الوفي".
وأعتقد أن ما من وفاء عرفه الأدب القديم والحديث، دام أكثر من وفاء وحب الدكتور عصام حداد لشربل بعيني، والعكس بالعكس. وها أنا، إثباتاً لقولي، أقفز فوق السنين، وفوق مئات الرسائل، وأنشر تهنئة عصام لصديقه شربل بإمارته الأدبيّة، كما نشرتها جريدة الأنوار البيروتيّة، ومجلّة أميرة المهجريّة الشهريّة، في بداية عام 2001:
" لا عجب أن يكرّم الإغتراب اللبناني الشّاعر شربل بعيني، فالجامعة الثقافيّة في العالـم، بالمجلس القاري، انتخب هذا اللبناني الكبير في عالـم الإنتشار أميراً من أمراء الكلمة، حمل هـمّ الثقافة وهـمّ لبنان على منكبيه أكثر من ربع قرن.
هذا الرجل المهووس بوطنه وبالفكر، لا يرتاح منذ أن هجر لبنان هجرة قسريّة، فما كلّ وما لان، لأنّه طُبع على التضحيّة والوطنيّة والإستشهاد في سبيل القلـم، وفي سبيل لبنان.
فسبحان اللّـه كيف يبعث للأمـم، دوماً، رجالاً يمشون على الإبر والحراب، ولا يهابون الموت، لأنهم رسلٌ يؤاتيهم اللّـه القوّة ليتحمّلوا كلّ الصعاب.
شربل بعيني الشّاعر المربّي الوطني الإنساني، هو مجموعة رجال كوّنت منه، على حدّ براءة الجامعة الثقافيّة، قدموساً آخر حمل التراث الحضاري اللبناني الإنساني إلى العالـم، يعلّم ويثقّف، يكتب ويحاضر، لكأنّه يحسب الدنيا كلّها عطاء لأمّته. يرى الكون من خلالها، ويراها من خلال روحه وقلبه وقلمه، كنوزاً لا تنفد وفولاذاً لا يلين.
إن هذه النضارة في الروح، وهذا العنفوان الأرزي في الجبين، وهذا القلب كرواء تلالنا، عطايا كوّنت منه حبيباً إلى كلّ مغترب ومقيم.
إن سرّ شربل بعيني هو بهذا الأنس الكامن فيه، بهذه الشفافيّة الرائعة، بهذه الصراحة والبثّ المحبّب الذي ألّب الكثيرين إليه، وألّب الكثيرين.. عليه!!
إن الإنسان الذي يختلف فيه الحبّ والرأي، لهو من الكبار. وإننا، نحن الشرقيين، إذا نبغ واحدٌ منّا عِوضَ أن نكون كالغربيين نغار عليه فنغار منه.
إن أحدهم يشبّه الغربيين طالعين السلّـم، يدفع بعضهم بعضاً للعلاء، وأما الشرقيون فيشدّون ببعضهم في السلّـم إلى تحت!!
وأنا أريد، بل أحبّ، أن يؤتى الإنسان منافساً أو حسوداً عملاً بقول أبي تمام:
وإذا أراد اللـهُ نشرَ فَضِيلةٍ
يوماً، أتاح لها لسانَ حسودِ
فالحسود لا يؤذي إلاّ نفسه، ولكن ينفع خصمه لأنّه يلفت إليه الخواطر والأنظار فيعرفون قدره. والجوهرة لا تعرف إلاّ بالمصهرة. فحذار أن يكون هناك حاسداً، أتمنى له أن يترفّع عن الأذِيّة كرمى لعينيه، لئلاّ يُتّهم بألف تهمة وتهمة، وبذلك أكون فضّلت كرامته أن تنحدر إلى أدنى الدركات.
إن شربل بعيني مبدع، فاقت كتبه العشرين. لو كان بإمكانه أن يكون بائع ورد، أو قطع غيار، لملأ أستراليا مالاً، وعمّر قصوراً. ولكنه آثر أن يخدم وطنه لا نفسه، فانصرف إلى التعليم والتأليف. فكم من مهرجان ومسرحيّة ومؤتمـر جنّد شربل له كل قواه، فعمل ما لـم يعمله العديد من السفراء والقناصل الذين يهمّهم كلّ شيء ما عدا الوطن!
كم من أناس يهاجرون، أو يحتلّون القنصليّات والسفارات والسرايات، هـم على شاكلة قرد ذلك الغيلـم في قصّة إبن المقفّع، ينزلون البحر وينسون قلبهم على الشاطىء، فيعيشون في الغربة أجساماً بلا فكر ولا روح، مأجورين في وطن لا يؤمنون بديمومته. وأما شربل، فحمل قلبه على كفّه ونزل إلى المعترك، سفارته النقّالة، ولبنانه الرسالة في الجبين، وفي القلب وفي الضمير. فلا كثير عليه الأوسمة والتكريم والبذل.
عرفت الكثيرين بعد سنين، نسوا وطنهم، حتى إنهم تنكّروا للغتهم، فيتربّى أولادهم على التنكّر للبنان. وها هو شربل بعيني في (هاريس بارك) يعلّم أولاد اللبنانيين لكي يندمجوا بوطنهم عن طريق اللغة. فهل من يدلّني على مثل هذا الإستشهاد الدّائـم في سبيل لبنان؟!
وبالمناسبة، أقترح على الدولة أن تخترع وساماً تسمّيه (وسام الإغتراب اللبناني)، علّها تشجّع هذا وذاك ليحملوا في أجسامهم دماً نقياً للبنان، ويكون شربل أوّل حاملي هذا الوسام.
وكم من ذوي مآرب وجشع ومصالح يخلّون وراءهم لبنان للذئب والغراب، يعيش كل لنفسه كأنه وحده في جزيرة. وأما شربل فهو (البرزخ) للمقيم والمغترب، كأنه واصل إلى أستراليا توّاً من مجدليّا، (خاص ناص) مادة خام.. فيها كل الحب والوطنيّة والتفاني بلا حساب.
وأما أن نطعن بشربل بعيني الذي انتخب من بين 41 مرشّحاً، فهذا عين التجنّي والحقد والإجحاف. فالترفّع عن الحقد كبير والبغض جريمة. حرام أن تنهش قلوبنا الأفاعي، فالحقد حقير.
وأمّا أنا فأقول لشربل ما قال ريشيليو: (لولا انتقاد أعدائي ولؤمهم، ما نجحت في كثير من أعمالي).
ويقول الشّافعي في معنى آخر:
كلّ العداوات قد ترجى إزالتها
إلاّ عداوة من عاداك عن حسدِ
وسلام اللـه عليك يا أخي شربل. بوركت لك الجائزة وهذا التقدير، فأنت كنت وتظلُّ رسول لبنان".
نفهم من هذا المقال المعمّم على الوطن والمهجر في آن واحد، أن الدكتور عصام حدّاد لـم يكتفِ بفوز صديقه بإمارة الأدب والشعر في عالـم الإنتشار اللبناني، بل اقترح على الدولة اللبنانيّة أن تخترع وساماً تسمّيه "وسام الإغتراب اللبناني"، ويكون شربل أوّل حاملي هذا الوسام. إنتبهوا إلى كلمة "أوّل" لتدركوا أهميّة أدب شربل بعيني عند مخترع "جائزة شربل بعيني" في مهد الحرف جبيل.
هذه هي الصداقة، هذا هو الحب، وهذا هو الوفاء.. وهذا ما نجده دائماً وأبداً في كل حرف خطّه قلـم عصام للذي اجتاح قلبه، تماماً كما كتب بتاريخ 2/8/1988:
"لا أذكر أن أحداً اجتاح قلبي بمثل ما اقتحمته أنت.. وكنت فخوراً بأن بغداد، كعبة المعرفة، عرّفتني بك، فحملتك في فكري وقلبي وعينيّ.. ولـم يبرح صوتك يدوّي في كياني، وضحكتك تتمثّل أمامي، وطيفك يماشيني في ليالي بغداد الأنيسة".
وها هو يعترف برسالة أرسلها بتاريخ 3/11/1988، أن صبره للقاء شربل قد نفذ: "وأنا بفارغ صبر أتعجّل المربد لأراك وأسمعك، فلا تخذلني بغيابك".
والحقيقة أن شربل خذله تلك السنة ولـم يذهب إلى المربد التاسع، لأسباب ذكرتها سابقاً. فأرسل له عصام رسالة عتاب لعدم مجيئه إلى بغداد مؤرّخة في 30/11/1988:
"من سنة لسنة أنتظر المربد لأراك، فقد تحاببنا، ولـم أعد إلى بغداد هذا العام إلاّ أملاً برؤيتك، فقد ملأت قلبي وعينيّ. ولو كنت مصوّباً إليّ جهازاً تلفزيونيّاً ولاقطاً، لرأيتني أتنقّل من فندق إلى فندق، أسائل هذا، وأسلّم على ذاك، دخيلك متى يصل الوفد الأسترالي؟..
على كلّ حال ربما أنت ارتحت، ولكن، وحياة عينيك، أنا حزنت وحزنت وحزنت، وأحسست أن المربد بدونك ناقص".
إذن، فالدكتور عصام حداد لـم يذهب إلى بغداد إلاّ طمعاً برؤية حبيب قلبه، وعندما خذله شربل، توجّه إلى مسقط رأسه "مجدليّا"، علّه يعوّض بالحجر ما خسره من البشر. فلنقرأ هذا المقطع المعبّر جداً من رسالة مؤرخة في 13/10/1990:
"كما أني ذهبت إلى مجدليّا، وتحدّثت طويلاً إلى الأديبة سوزان بعيني، وكنت أنت الوصلة في كل حديث، وحين وطأت أرض مجدليّا، تصوّرت شربل الطفل، واليافع، والشاب، يعدو في ربوعها، وبين أشجارها، وخلف صباياها، وعلى منابرها، ورجعت بمشاعر شاعر لا أقدر على وصفها. أترك لك أنت تقديرها".
وبما أن الشّوق عند شربل لرؤية عصام، لا يقل عن شوق عصام لرؤيته، بل يتشاوف عليه، رشّحه لنيل جائزة جبران العالميّة، علّه يأتي إلى سيدني لاستلامها، ويمتّع العين والقلب برؤيته.. فربحها عام 1991، وأربحها شهرة إعلاميّة لـم تحظ بها جائزة من قبل. إنه حركة دائمة.. إنه خزّان وفاء.. ومن هذا الوفاء النادر راح يخبر الناس، أنّى وجد، عن رابطة إحياء التراث العربي، وعن أدباء المهجر الأسترالي، وعن جائزة جبران، التي احتفل لبنان بفوزه بها.
ولكي يستلمها، وصل إلى سيدني في منتصف شهر تشرين الثاني 1991. ومن ساعة وصوله ولغاية عودته، والإعلام المهجري يغطّي كل خطوة يخطوها: من القصيدة الجبرانيّة الرائعة التي حلّق بها في الإحتفال، إلى الأمسيّات الشعرية والأدبيّة التي أحياها في منزل شربل بعيني، إلى تكريمه من قبل راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات في هاريس بارك، وكافة أعضاء الرابطة والأصحاب، إلى إلقائه قصيدة بيوم لبنان الذي أقامته فرقة أرز لبنان الفلكلوريّة في منطقة دارلينغ هاربر السياحية.. إلى اللقاءات الإذاعيّة والصحفيّة العديدة التي أجريت معه.. إلى نشاطات عدّة لا حصر لها.
لقد دخل هذا الرجل قلوب المغتربين، وأبى المغتربون أن يخرجوه منها.. هكذا وبكلّ بساطة!!.. وها هو يكتب في جريدة الأنوار البيروتيّة الصادرة بتاريخ 24/12/1991 "انطباعات شاعر في رحلة بعيدة.. إلى قارة بعيدة"، فلنقرأ بعض ما كتب:
"3 ساعات من بيروت إلى دبي، و7 ساعات من دبي إلى سنغفورة، ومن سنغفورة إلى سيدني 8 ساعات، وأنت على رحمة القدر وبركة اللـه، معلّق بين الأرض والسماء"..
وبعد أن يخبرنا بأسلوبه الساخر عن رجرجات الطائرة وإقلاعها وهبوطها، وعن تلك الحيزبون المتصابيّة التي أعمت بصره بدخان سيجارتها طوال الرحلة.. يصل إلى مطار سيدني:
" ها هم الإخوان اللبنانيون يعانقونك بلهفة وحنين، يشمون فيك رائحة الليمون والزعتر والوزّال، يبكون ماضيهم المجيد ولكنهم يتأوّهون تأوّه الآمل بالفرج والعودة إلى ذراع الأم والأب والأهل والصديق..".
ويبدأ عصام بإجراء مقارنة بسيطة بين الحال التي وصل إليها وطنه الغالي لبنان، وبين الرفاهية التي تنعم بها أستراليا، وكيف تغرّد البلابل في سيدني، بينما الصيّاد اللبناني القليل المذاق يقتل بلابل الأيكة تقتيلاً بلا هوادة ولا حياء.. إلى أن يصل إلى بيت القصيد، صديقه شربل بعيني:
"تنزل صبحاً إلى الحديقة فترى شربل الخل الوفي الذي يحسبه الشاعر العربي ثالث المستحيلات، تراه في انتظارك، يحيطك بكل عناية وراحة وحفاوة، بجانبه أم أنطوان وأنطوان ليوفّروا كل ما يسر ضيفهم الحامل لهم من لبنان العبير والضوء ورائحة الزعتر والخضرة وعنفوان الجبل، ويهرع إلى خزانته "هذا ما فيها لي من لبنان كمشة تراب" أوصى شربل أول راجع من وطنه أن يحملها إليه من أرض بلاده، فاحتضنها كأثـمن ما لديه.
الحقيقة تبكي وتبكي لهذه الوطنيّة الرائعة وتبكي بعد، إذ تعرف كيف أن شربل بعيني الشاعر الذي ينبش في دماغه ألف خلد، ويحرّ فيه ألف شيطان وشيطان، لا يهدأ ولا يدع أحداً يهدأ في سبيل مجد بلاده ومجد الفكر. لقد هرب ذات ليلة إلى سيدني بعدما هدّد بالقتل لأنه يقول الحقيقة، ويريدونها أن تظلّ مخبّأة، لينطلق بها اليوم".
ولا أعتقد أن وسيلة إعلاميّة لبنانيّة صدرت في أواخر عام 1991، ولـم تنشر خبر فوز الدكتور عصام حدّاد بجائزة جبران العالميّة، وقد لا أُلام إذا ردّدت ما ذكرت سابقاً: إن الدكتور عصام حداد أعطى رابطة إحياء التراث العربي وجائزتها زخماً إعلامياً هائلاً.. ومن يطالع قصاصات الصحف والأشرطة المسجّلة التي أرسلها لشربل، يوافقني الرأي، أو يبزّني في القول.
عام 1992، دعا المجلس الثقافي في بلاد جبيل والرابطة الثقافية في معهد الأبجديّة، إلى الإحتفال بتكريم الشاعر الدكتور عصام حداد، لمناسبة نيله "جائزة جبران العالميّة"، برعاية وزير التربية والفنون الجميلة الدكتور زكي مزبودي. كما رشّحه قائمقام جبيل بالوكالة السيّد حبيب مخايل كيروز لنيل وسام وطني بسبب فوزه بجائزة جبران. وفي الإحتفال وصلته بركة البطريرك الماروني مار نصر اللـه بطرس صفير الأبويّة.. وبرقيّة ـ قصيدة من نصفه الثاني شربل بعيني.
هذا قليل مما فعله عصام للجائزة، وهذا بعض ما فعلت الجائزة له. ولكثرة وفائه لمن كان السبب في ترشيحه لها، واستضافته في بيته، أوجد في معهد أبجديّته جائزة تحمل اسم شربل بعيني، وإليكم الخبر كما جاء في رسالة أرسلها بتاريخ 21/8/1992:
"شربلي الحبيب.. أعانقك بلهفة عصاميّة أنت تعرف حرارتها ووفاءها. لا يكاد يمر علينا يوم، إلاّ ونتذكرك. صورتك أمامنا. كتبك على متناول يدنا. خيالك بعيوننا. ضحكاتك.. نكاتك.. كلّك بكل ما فيك.
أهلي ومعارفي والمعجبون، ولا سيما الحسناوات صاروا يزاحموني عليك.. صار لي ألف ضرّة وضرّة، وبمقدار ما ينمو في القلوب والعقول اسم شربل بعيني "بقشع حالي"..
أجدّد شكري على القصيدة والبرقيّة والمقال المنشور في جريدة الأنوار، وتلقّيت تلفونات عديدة تهنئة بعد المقال.
قدّمنا في معهد الأبجديّة "جائزة شربل بعيني" على مجموعة كتبك لإحدى الآنسات، واسمها ريتا بواري، وهي "جائزة الشرف" على مجمل سلوك ودروس الطالبة".
ولـم يتوقّف معهد الأبجديّة سنة واحدة عن منح الجائزة، بل كان يشجّع طلابه الفائزين بها بالكتابة إلى شربل. وها أنا أنشر مقتطفات من رسالة وصلته بتاريخ 25/9/1998، من الفائزين ماغي عبّود، رشيدة سعادة وجان كلود فهد:
"يسعدنا، بكل إعجاب وفخار، أن نباهي بالجائزة التي تولونها طلاّب معهد الأبجديّة كل عام. وكان لنا الحظ هذا العام أن نحوز عليها، فعمّت الفرحة قلوبنا، لأن إسمكم الكبير ملأ قلوبنا وأسماعنا، فكان بمثابة العطر من الورد.
فمنذ ثلاثة أعوام كان لنا الحظ الكبير أن دخلنا معهد الأبجديّة، فكان اسمكم يملأ الأذهان والآذان. وحين كانت إدارة معهدنا الحبيب تتلفّظ باسمكم، نرى على وجه مديرنا الحبيب الدكتور عصام إشراقة جديدة ملؤها الحب والإعجاب، فتحسّ أنه ينتقل للحال إلى عالـم سحري علوي يحملنا معه إليه، فنعرف آنئذ أن حلماً، أو ذكرى فيها شربل بعيني".
إذا كان طلاّب معهد الأبجديّة يكتبون كلاماً كهذا لشربل، فكم بالأحرى مديرهم عصام. فمن يريد أن يبكي من شدّة الشّوق والحنين، عليه أن يقرأ رسائل عصام الكثيرة لشربل. وهنا، دعوني أوجّه لومي إلى شربل بعيني لعدم نشر رسائل عصام حدّاد وهو الذي نشر مئات الكتب.. كما دعوني ألوم الدكتور عصام حدّاد على عدم نشره المقالات الرائعة التي كتبها عن شربل في الصحف والمجلات اللبنانيّة، وهو من هو في عالـم النشر والأدب. إنها جريمة كبرى يرتكبها اثنان يملكان دارين للنشر: دار شربل بعيني في سيدني، ودار عصام حداد في جبيل. فسامحوني إذا حكيت!!
هناك سرّ، أودّ أن أبوح به للقرّاء، وهو أن الدكتور عصام حدّاد، وبعد اشتداد المعارك العسكريّة في لبنان، طلب من صديقه شربل أن "يسحبه" إلى أستراليا، وقد ذكر طلبه هذا في أكثر من رسالة. ولكنّ شربل أدرك بحسّه المرهف أن صديقه عصام سيمحو فكرة السفر من عقله متى زار أستراليا. وهذا ما حدث بالفعل، وهذا ما علّق عليه عصام في جريدة الأنوار، العدد 12636:
"بعدما قال الشاعر المغترب شربل بعيني، للعائدين: "هاتوا لي معكم كمشة تراب من أرض "مجدليّا"، حتى إذا متّ في غربتي، ضعوها في تابوتي، ليمتزج ترابي بتراب لبنان".. الآن الآن، أخلّي ها هنا كلّ مباهج الكون، وأطير مع أول نسمة غادية إلى بلادي، بلاد الحب والسحر والمجد والضياء".
رسائل عصام إلى شربل، أقل ما يمكنني أن أقول عنها إنها صادقة، كتبت بأسلوب أدبي رائع. ولقد سحرتني، بصدقها الناصع كثلج لبنان، رسالة أرسلها لشربل بتاريخ 30/11/1991، ومنها أنشر:
".. وهل تظن أن هناك أطيب من السانحات التي قضيتها في أستراليا؟!.. لقد سمّرت في نفسي مدى العمر طابعاً لا يمحى، إذ وجدتني بين أهلي ألاقي كل حفاوة وتكريم. إنك لـم تترك عملاً ولا حفلاً ولا تكريماً إلاّ وقمت به في سبيل عصام، الذي يرى فيك الخلّ الوفي الذي يزعم الناس أنه غير موجود.. وها أنا أقسم أني وجدته يا أيّها الحركة التي لا تهدأ في سبيل وطنك، وفي سبيل الشعر والفكر.
أستعرض الآن كل مراحل الزيارة بلوعة وحنين، ومن تلقائي أدمع وأدمع وأدمع، ولا سيّما حين أتمثّل أمامي "أم أنطوان" في عمل مستمر لتوفير الراحة لضيفها وللجميع، حتّى يظنّ كل وافد إلى أستراليا أن بيته الثاني هو "بيت البعيني" محجّة الأدباء والمفكّرين والمشرّدين، ولا تضطرب إذا وجدت بينهم مثل "بروتوس" ويوضاس، فذلك هو كمال الحياة والمجد، فلولا الليل لـم يعرف النهار، ولولا الشوك لـم يعرف الورد".
كلام مخلص، تفوح منه رائحة الحكمة في القول والخبرة في الحياة. وأعتقد أن عصام فهم منذ لقائه الأوّل نفسيّة صديقه شربل بعيني، وعرف أن تواضعه الجمّ لا يدل على ضعف واستهتار، وأن شربل بعيني، رغم إنسانيته المفرطة، يعرف كيف يتخلّص، ومتى يتخلّص من أي بروتوس أو أي يوضاس دخل بيته. إنه لا يجامل أحداً في القضايا الإنسانيّة والأخلاقيّة. أي أنه كما قال عنه الأستاذ شوقي مسلماني في مقال نشرته جريدة البيرق في عددها الثامن والأربعين: "شربل بعيني شاعر، الطفل فيه حاضر دائماً لأنه أصدق، لأنه لا يعرف المداهنة أو اختلاق الأعذار والمبررات. ولأنه من طينة البراءة الأولى والحبّ الأول. أبيض أسود، هكذا كل شيء".
ولـم يكتفِ عصام بما كتبه عن شربل، بل راح يقيم الندوات الإذاعيّة حول شعره، وها هو الأستاذ أنطونيوس بو رزق يخصّ ندوة إذاعة "الإذاعة" اللبنانيّة حول أدب شربل بعيني بمقال نشره في جريدة البيرق بتاريخ 15 آب 1991، أختار منه:
"نتاج شربل لـم يتوقّف عند حدود أستراليا، بل تخطّاها، "طار" إلى لبنان والبلاد العربيّة، فقيلت فيه كلمات، وعقدت لنتاجه ندوات، وكتبت حول دواوينه دراسات، نذكر منها دراسة الأديب محمد زهير الباشا شربل بعيني ملاّح يبحث عن اللـه.
وفي لبنان، بلد الكلمة الأقوى من المدفع، لـم تستطع الحرب القذرة أن تقتل ما في نفوس بنيه من فن وأدب وشعر وتكريم لأهل الفن والأدب والشعر.
وإذاعة "الإذاعة" في برنامجها الخاص الذي يعدّه ويديره الأديب الأستاذ رفيق روحانا، استضافت الأديبة إبريزا المعوشي والأستاذ عصام حدّاد صاحب "دار عصام حدّاد للنشر" في ندوة بعنوان "حول نتاج الشاعر شربل بعيني".
في الندوة تحدث الأستاذ حداد عن كيفيّة تعرّفه إلى الشاعر في المربد ـ العراق. ثـم انتقل إلى الكلام عن الظروف التي أجبرت الشاعر على الهجرة، وجعلت من شعره شعر مرارة من الظلـم وكبت الحريّات وثورة من أجل الحق والحريّات...
بعدها وجّه معدّ الندوة الأستاذ روحانا السؤال للأديبة إبريزا المعوشي عن شربل، الإنسان والنتاج، فقصّت أديبتنا كيف أن لقاء قصيراً مع الشاعر أدخلها قلبه لتتعرّف إلى مكنوناته، وسبرت أغوار نفسه لتغرف من لآلئه، وقالت: "وطنيّة شربل تجعله يتحرّق للعودة إلى لبنان. ورغم هناءة عيشه يحن لوطنه".
وصدّقوني أن رسائل الدكتور عصام لشربل، وخاصّة تلك التي كان ينهيها بهذه العبارة: "متمنيّاً أن نتلاقى دائماً، ولا سيّما تحت سماء لبنان" أعطت مفعولها، وبدأ صخر غربة شربل الطويلة يتفتّت أمام إصرار عصام، فرجع إلى لبنان في أوائل عام 1999، وبذلك يكون قد تغلّب على غربة دامت أكثر من ثلاثين سنة، والفضل كلّه يعود لذلك الذي فتح بيته له، وعمل المستحيل هو وأخته سلوى وأخواه سمير وسامي، من أجل راحته وراحة زوجته ليلى. وما أن رجع شربل إلى أستراليا، حتى وصلته من عصام هذه الرسالة المؤرخة في 14/5/1999:
"هوذا الحبيب الذي به ارتضينا".. هذا ما يصرّح به علناً عصام وسلوى وسمير وسامي بعد زيارتك لبنان. لقد رأت العين من كانت تحلم به. لقد رأينا شربل الذي يفعل فعل الذرّة في القلوب. كيف حال "درة الشرقين" ليلى؟.. كيف حال "ست الحبايب" التي يقال لها: مباركة ثـمرة بطنك.
أخاطبك من على شرفة الطبقة العاليّة التي رأت طلعتك البهيّة أنت وليلى، والتي سمعت هيصتك المهووسة بالوطن والفكر. نخاطبك كلّنا بلهفة وحب وإعجاب، مجدّدين الشكر على زيارتك، وعلى ما تتحفنا به من محبّة وإطراء ووصف في مجلّتك التي أطلقت عليها: جعبة المحبّة".
من نكاتنا الإغترابيّة التي حملها الدكتور عصام حداد إلى أرض الوطن، تلك التي حصلت مع شربل وكامل المر. فبعد أن ألقى الأستاذ كامل خطابه في حفل تسليم جائزة جبران، وشكر الحاضرين فرداً فرداً.. سأله صديقه شربل إذا كان الجمهور الحاضر كلّه من الرجال.. فأجابه كامل:
ـ لا إنه من الرجال والنساء..
فقال له شربل:
ـ إذن كان من المفروض أن تشكر الحاضرين فرداً وفردة.. حتى لا يتهموك بالتمييز الجنسي.
ومن النكات العصاميّة التي أخبرنا إياها شربل، أنه طلب من الدكتور عصام أن يريه بعض الشقق المعروضة للبيع، شرط أن تكون مطلّة على الوادي.. وبعد عدّة أيّام من اللف والدوران وصعود سلالـم البنايات المشرفة على الوديان، صاح عصام بشربل:
ـ يا عمّي.. ضروري تكون الشّقة فوق الوادي.. ما لبنان كلّو وديان، مطرح ما بدّك وقاف وتفرّج.
ما كتبته عن رحلة الدكتور عصام حداد الأدبيّة مع شربل بعيني قليل جداً، ومبتور جداً.. لأنني لو أطلقت لقلمي العنان لكتبت عنهما مجلداً كاملاً، كيف لا ورسائلهما فقط بإمكانها أن تلد مجلدين وأكثر.
**