السفير جان ألفا وجائزة الأرز الأدبيّة

عام 1985، منح قنصل لبنان العام في سيدني الدكتور جان ألفا، جائزة الأرز الأدبيّة للشاعر شربل بعيني على نشاطه الأدبي المميّز. واحتفاء بهذه المناسبة شرّع سعادته أبواب القنصليّة اللبنانية للضيوف الأستراليين واللبنانيين والعرب. وفي مقدّمتهم الوزير بيتر أندرسون ممثل رئيس وزراء الولاية، والرئيس نيك غراينر رئيس حكومة الظل يومذاك، ورئيس ولاية نيو ساوث ويلز فيما بعد. وكانت هذه الجائزة أول جائزة تقديرية يحصل عليها شربل بعيني.
وكعادتها، فقد أبرزت الصحف العربيّة الصادرة في أستراليا الخبر، ونوّهت بأهميّته. وها هي جريدة النهار المهجريّة الصادرة بتاريخ 5/7/1985 تنقل الخبر:
"كان قنصل لبنان العام السفير جان ألفا أعلن، في العام الماضي، عن تبنّيه ومنحه جائزة الأرز لأفضل إنتاج أدبي، أو فنّي، أو تراثي لأبناء الجالية اللبنانية. وبدت الفكرة صعبة في البداية، بسبب غياب الوجه الثقافي في الجالية، وعدم محاولة إبراز المواهب في أوساط مهاجرينا.
وكانت المحاولة ناجحة، وتلقّى سعادة السفير الترشيحات، وقام برصد التحرّكات والنشاطات الفكريّة والثقافيّة، وتابعها منذ وصوله سيدني قبل 15 شهراً فقط.
وجاءت المحاولة الأولى على قسط كبير من النجاح، وتشجّع بنمو الفكر والأدب في هذه الجالية، التي افتقرت دائماً إلى الإستنفار الأدبي والفني، وشحذ وتجميع المواهب المشتتة في أوساطها.
وقد ألقى السفير ألفا كلمة بليغة باللغة الإنكليزية أثارت الإعجاب، قال فيها: يبدو من المستهجن أن يكون ممثل دولة تنزف دماءً، وتعاني من حرب طويلة، ما زال يفكّر بتبني وتشجيع الفن والثقافة في أستراليا. ولكن عندما نعلم بأن التاريخ المظفّر لوطننا يعود إلى ما قبل 6 آلاف سنة، وما حقّقه أسلافنا ومواطنونا حول العالـم، وكم من المحتلّين والبغاة تجاوزنا وطردنا، وما زلنا نتحدّى الغزاة الجدد منذ نيّف وعشر سنوات. عندما نعلم هذا، نشعر بأن لبنان سيتجاوز المحنة، وسينهض مثل طائر الفينيق من الرماد، وسيحلّق في الأجواء العالية كما كان، وستفوح العطور من أزهاره وأشجاره مجدّداً..".
كما أن جريدة صوت المغترب الصادرة بتاريخ 4/7/1985، قد اعتبرت يوم 29 حزيران 1985 هو يوم تكريم الأدب المهجري والفنون الجميلة في أستراليا، وتابعت تقول:
"الأدب الذي كان منسيّاً من قبل المسؤولين والرابطات والجمعيّات وغيرها، أتى الدكتور جان ألفا على صهوة حصانه الأغبر ونفض عنه غبار الإهمال، وأعاده ناصعاً كالثلج، مضيئاً كالشمس، وخالداً خلود الأرز والفرات والأهرام، وملوّحاً به كالسيف فوق رؤوس الجميع، ولسان حاله يقول: ما من أمة خالدة إلا بخلود أدبائها، وبالحفاظ على فنونها ونشر تراثها..".
وفي زاويته الشهيرة "كي لا ننسى"، كتب الأستاذ بطرس عنداري في جريدة النهار الصادرة في الخامس من تموز 1985، ما يلي:
"إن جائزة الأرز في سيدني، بتواضعها ومنطلقاتها البسيطة، توازي طموحات ألفرد نوبل وجائزته بمعانيها الإنسانية والأخلاقية والوطنيّة. وقد حضرت خلال ربع قرن عشرات الإحتفالات في السفارات والقنصليّات وكانت جميعها للمجاملات، وتبادل الأنخاب، وتبادل التمنيّات الكلامية. ولكن احتفال يوم السبت 29/6/1985، كان يحمل معنى جديداً لـم تألفه بعثاتنا الدبلوماسيّة سابقاً.. إنه معنى الأصالة ومحاولة البحث عن الفكر، وما يحمل من جمالات وإنتاج وحب.
إن الإنتاج الفكري يثبت وجود الشعوب، وها قد بدأت جاليتنا تثبت وجودها بتطلعاتها الفكرية، ومحاولاتها الأدبيّة. فشكر الجالية نوجهه إلى صاحب الفكرة والمشاركين معه وللفائزين، وإلى جولات إنتاج جديدة".
ولكي لا يبقى التكريم ضمن نطاق الجالية، أرسل سعادته برقية إلى وزارة الخارجيّة اللبنانية، يعلن فيها عن أسماء الفائزين بجائزة الأرز الأدبية والفنيّة، فما كان من الأمين العام للوزارة السيّد فؤاد الترك إلاّ أن وزّعها على الصحف ووسائل الإعلام اللبنانيّة، وها أنا أنشر الخبر كما ورد في جريدة النهار البيروتية الصادرة في 17 آب 1985:
"من ناحية ثانية، تلقّت الخارجيّة برقيّة من قنصل لبنان العام في سيدني السيد "جو" ألفا، أفاد فيها أنه أقام حفلة كوكتيل في دار القنصليّة، حضرها ممثل رئيس الوزراء "الكندي"، وجمهور من أبناء الجالية اللبنانية، ومنح خلالها جائزة الأرز لعام 1985 لكل من السادة: رياض الاسمر وشربل بعيني عن الأدب العربي. وعفيف نقفور وجوفري سابا عن الفن، وديفيد معلوف الكاتب الشهير بالإنكليزيّة، وكامل المر رئيس رابطة إحياء التراث "اللبناني". والجائزة هي عبارة عن كأس فضية حفرت عليها الأرزة اللبنانية. ونشرت الصحف المحليّة تفاصيل هذا الإحتفال، وأشادت بمواقف الجالية اللبنانية ونشاطاتها في الحقول الاجتماعية واللبنانية".
لقد وردت بعض الأخطاء المطبعيّة في مقال النهار، منها: جو بدلاً من جان. ورابطة إحياء التراث اللبناني بدلاً من التراث العربي، وجوفري بدلاً من جيفري.. والكندي بدلاً من الأسترالي. وقد تركتها كما وردت حرصاً منّي على صحّة النقل.
ولكثرة امتنانه للسفير جان ألفا، خلّده شربل بعيني بقصيدة رائعة أقتطع منها هذه الأبيات:
الأرزه الـ حملت مجد ع كتفا
وصارت ع أنغام الأزل تغفا
لو كان بدّنا نزيّنا بشي إسمْ
كلّو شهامه وتضحيّه مع علـمْ
منحفر ع كعبا بالدّهب "ألفا"..
وفي منتصف القصيدة التفت شربل الى السيّدة سامية زوجة السفير ألفا وقال:
ومنشان ما ننسى المتل شو قال:
فتّش عن الحرمه الـ ورا الرجّال
لازم نحوّش ألف سلّة زهر
من زهور صعبه تنشرى بالمال
ونشلحن ع جرين ست الطّهر
ساميه.. ومين غيرها بالبال؟
الـ رغم التنقّل بين بر وبحر
خدمت قضيّة شعبها بعز وفخر
وبالوقت ذاتو ربّت الأطفال.
وما أن نطق شربل بهذه الأبيات حتى أجهشت السيّدة العظيمة بالبكاء، وراحت تمسح دموعها بكفيّها، وهذا ما يظهر جلياً في شريط الفيديو الذي صوّر ليلتئذ وما زلنا نحتفظ به.
وإن أنسى لا أنسى إعجاب الرئيس نيك غراينر بإلقاء الشاعر بعيني، وكيف طلب منه الإنضمام إلى أحد فروع حزب الأحرار، وعلى مسمع من السفير جان ألفا، لأن الحزب، على حد تعبيره، بحاجة إلى نوّاب من خلفيات إثنية، كالشاعر شربل بعيني. وأعتقد أنكم تعرفون جواب شربل للسيد غراينر.. وكيف لا تعرفونه؟ وهو الذي حارب الدجل السياسي بمعظم قصائده. لقد كان جوابه:
ـ لا.. شكراً.. الحقل السياسي لا يعجبني على الإطلاق.
وها هو شربل بعيني، يفي بوعد قطعه للسفير ألفا في القصيدة، بأن يخلّده بالشعر كما خلّده هو بجائزته، فنشر عنه قصيدتين في ديوان الغربة الطويلة، ورباعية في ديوان رباعيات، ولاحقه برسائله إلى حيث انتقل. ومن مونروفيا، عاصمة ليبيريا، أرسل له السفير ألفا هذه الرسالة:
"وصلتني رسالتك مع قصاصة جريدة صوت المغترب، وقرأت قصائدك التي تتكلّم عن معاناة بلدنا الحبيب لبنان بكل اهتمام. كما وأشكرك على القصيدة التي خصّيتني بها. متنمنياً لك دوام التوفيق والنجاح".
هذه هي حكاية الجائزة الأولى التي حصل عليها شربل بعيني "من ألفها إلى يائها"، وهذا هو السؤال الذي يطرح نفسه بنفسه: هل بإمكان شربل بعيني أن يضغط على السفير ألفا من أجل منحه "جائزة الأرز"؟.. بالطبع لا، لأن الجائزة تأتي دائماً لمن يستحقّها.. وأعتقد أن شربل بعيني كان من مستحقّيها، وبفخر أدبي زائد. تماماً كما استحق إمارة الأدب المهجري في عالـم الإنتشار اللبناني، التي منحه إيّاها رئيس المجلس القاري للجامعة اللبنانية الثقافية في العالـم، الأستاذ الأديب جوزيف حايك.
**