إمارة الأدب في عالم الإنتشار اللبناني

شربل بعيني، هذا المجدلاوي القروي البريء، الذي طاردوه في لبنان، وأجبروه على خلع حذائه قبل دخوله الطائرة كي لا ينقل الجراثـيم إلى أستراليا. هذا الشاعر الإنسان الذي لـم يفهم سرّ تواضعه الجمّ سوى القلائل من الناس، اختاره المجلس القاري للجامعة اللبنانيّة الثقافيّة في العالـم ـ قارّة أميركا الشماليّة، أول أمير للأدب في عالـم الإنتشار اللبناني. وأرسل له صكّ الإمارة في السابع والعشرين من شهر تشرين الأوّل عام 2000، مطعّماً بكلمات ذهبيّة رائعة، وممهوراً بإمضاء رئيسه القاري الدكتور جوزيف حايك، وإليكم ما جاء في الحيثيّات:
"حيث أن الأستاذ شربل بعيني كان، ولأكثر من ربع قرن، ويبقى سيّد الكلمة والقلـم في عالـم الإنتشار.
وحيث أن الأستاذ شربل بعيني قد جنّد حياته وقلمه لتربيّة الأجيال، وأغنى المكتبات العامّة بأدبه ومؤلّفاته.
وحيث أن الأستاذ شربل بعيني أصدر أكثر من 25 كتاباً، وارتفع باللغة والأدب والتربيّة والتعليم إلى أعلى مستويات الأبجديّة، وأصبح (قدموس) الثاني في التراث الفكري والثقافي والحضاري الذي أعطاه للعالـم، هذا العطاء الذي أمامه يتضاءل كل عطاء.
وحيث أن الأديب شربل بعيني قد وفّر بعطائه الأدبي والفكري والتربوي ما يوفّر للإنسانيّة أسباب العزّة والكرامة.. فكانت أنشودته (الحرف والكلمة)، وكان الفكر الخلاّق يستوي على عرشه.. وحدود أرضه قد ضاقت بطاقاته، فراح يوسّع حدوده إلى أقمار الدنيا، فاغترب عن لبنان إلى أستراليا في العام 1971.
وحيث أن كبير أدباء موطن الأرز الأستاذ شربل بعيني قد فتح صفحات التاريخ، وترك تلك الصفحات تتكلّم، فأصبح موسيقى العذارى على فـم الأنبياء، الذين أحنوا الجبين أمام عظمة الأدب والفكر والكلمة.
وحيث أن الأستاذ بعيني قلّده المفكرون والأدباء والشعراء وأسياد التراث الحضاري والفكري، ومنهم الحكومة اللبنانيّة، أكثر من 20 من الأوسمة والميداليّات المذهّبة عربون إجلال وإكبار لمستواه الأدبي الرفيع..
لهذه الأسباب المشرّفة، وهذه المقوّمات الأدبيّة الشامخة، وهذا المستوى الثقافي الرفيع، كان لنا الفخر، كل الفخر، في المجلس القاري للجامعة اللبنانيّة الثقافيّة في العالـم، أن ننتخب من بين 41 مرشّحاً من خيرة الأدباء اللبنانيين، الأستاذ شربل بعيني أمير الأدباء اللبنانيين في عالـم الإنتشار".
هذا ما جاء في حيثيّات الإمارة، وهذا ما أغضب القليلين، وأفرح الكثيرين. ولكي أكون صادقاً مع قرّائي ومع التاريخ، أعترف أن شربل بعيني ما كان لينشر خبر فوزه بالإمارة لو لـم يطلب منه ذلك الرئيس الحايك، فلقد اتصل بي، وأطلعني على الرسالة، وقال لي:
ـ إذا نشرت الخبر سيثير حساسيّة البعض، وإذا أخفيته أكون قد رفضت طلباً عزيزاً لإنسان كبير اسمه جوزيف حايك.
فطلبت منه تنفيذ رغبة الحايك، على أن نرصد الأمور بتأنٍ وحذر.
وفي الرابع من شهر تشرين الثاني 2000، وصلت هذه الرسالة من الرئيس القاري جوزيف الحايك:
"حضرة الأستاذ شربل بعيني المحترم، أمير الأدباء اللبنانيين في عالـم الإنتشار للعام 2000
.. وهكذا طوال ستة آلاف سنة من عمره الحافل بالعطاء والشموخ والعنفوان، يتابع لبنان زرع بذور الخير والإنسانيّة في كلّ مكان، وينقل إلى العالـم دفقة نور من الأدمغة اللامعة، أسياد القلـم والكلمة، وروّاد آفاق الحرف والقيم المثاليّة، هذه الأدمغة التي ارتفعت بحدود الأبجديّة إلى سماء اللـه الواسعة. وأديبنا الأكبر الأستاذ شربل بعيني هو خير مثال على ذلك.
كثير هو عطاء لبنان على مرّ الأزمان، وخير عطائه كان ويبقى انتشار أبنائه تحت كلّ كوكب في أقطار المعمور القصيّة، من أدباء ومعلمين ومفكرين وكتّاب وشعراء، وعلى رأسهم في هذه السنة الألفيّة المقدّسة، يبرز (أمير الأدباء اللبنانيين في عالـم الإنتشار لعام 2000) الأستاذ شربل بعيني، الأديب والفيلسوف والشاعر والمفكّر الخلاّق، الذي فتح صفحات التاريخ وتربّع على عرشها، وأصبح (قدموس) الثاني، وموسيقى الناي الإلهي عند انبثاق الفجر.
وأنتم يا أمير الأدباء الأستاذ شربل بعيني، المشعل الوطني وصاحب الولاء المطلق للبنان، وطن الرسالات، السيد الحر المستقل، لبنان (الجامعة الثقافيّة في العالـم)، التي بها تؤمنون، وبرسالتها تفخرون، أديبنا الكبير، بل (الأكبر) من كل الكبار، كان لنا الفخر، كل الفخر أن ننتخبكم (أمير الأدباء اللبنانيين في عالـم الإنتشار لعام 2000). ويسعدني، بكل ما للكلمة من معنى، أن أقدّم تهانئي لكم وللبنان، ولكل اللبنانيين، مقيمين ومغتربين، وأرفع لكم البراءة الرسميّة الصادرة في 27 تشرين الأول 2000، والتي تعلن للعالـم اختياركم (أمير الأدباء اللبنانيين في عالـم الإنتشار للعام 2000)، واقبلوا يا سيّد الكلمة والحرف تقديرنا وعميق مودّتنا وافتخارنا".
وها أنا أطلعكم على بعض رسائل (الأمير) إلى الدكتور جوزيف حايك، لتدركوا مدى عظمة شربل بعيني الأدبية، وأنه لـم يسعَ للإمارة، كما اتهمه البعض، بل حاول الإكتفاء برسالة تقدير. وإليكم ما كتب في الثامن من أيلول 2000:
"حضرة الرئيس القاري للجامعة الثقافيّة في العالـم الأستاذ جوزيف حايك المحترم.
تحيّة لبنانيّة إغترابيّة صادقة ملؤها المحبّة.
لقد استلمت، اليوم، رسالة ثانية منك كانت أجمل من الأولى، وصدّقني أن قبولك بترشيحي عن إمارة الأدب يعتبر جائزة تقديريّة بحدّ ذاته، كما أن العبارتين اللتين وردتا في رسالتيك الأولى والثانية تعتبران وسامين يشرفّان صاحبهما. ألـم تقل في رسالتك الأولى: إنك الشاعر وإنك الأديب. وفي الثانية: إن مستواك الأدبي يساوي كليّاً مستواك الشعري. بلى، لقد كتبت يا صديقي جوزيف هاتين العبارتين الخالدتين وأرسلتهما إليّ، وهذا، بنظري، يساوي ألف إمارة. ويا ليتكم تستبدلون الإمارة برسائل جميلة كالتي أرسلتها لي، ليأخذ كل شاعر وكل أديب حقّه. فلا أحد من الأدباء والشعراء الحقيقيين تهمه الإمارة. كل ما يهمهم هو إلتفاتة تقدير كإلتفاتتك عبر رسالتيك.
إن كل من يكرّم شاعراً إغترابياً يكون قد كرّمني. فألف شكر لك على محبّتك، لأنك الأمير حقاً، ولأنك الرئيس حقاً".
يقول شربل في رسالته أن لا أحد من الأدباء والشعراء الحقيقيين تهمه الإمارة، وهذا ما يثبت أنه أبعد ما يكون عن الألقاب الرنانة، والأمجاد الدنيويّة الزائلة. أوَ ليس هو من حارب الزعامات، وأبى أن يمدح رئيساً أو أميراً أو ملكاً؟. وقد أدرك الأستاذ بطرس عنداري هذه الحقيقة، فكتب في جريدة الشرق، العدد 84، الصادر في 22 تشرين الثاني 2000، ما يلي:
"تلقّى الشاعر شربل بعيني تقديراً جديداً من الصحافي المخضرم الأستاذ جوزيف حايك، رئيس المجلس القاري للجامعة اللبنانيّة الثقافيّة في العالـم، وهي مستقلّة عن الهيئة العالميّة للجامعة الثقافيّة.
وجاء في بيان المجلس القاري أنه انتخب الشاعر شربل بعيني (أمير الأدباء اللبنانيين في عالـم الإنتشار) تقديراً لعطاءاته الشعريّة والتربويّة في عالـم الإنتشار طوال 30 سنة.
وقال الشاعر شربل بعيني لـ الشرق: إنه يعتبر المبادرة من جانب الأستاذ جوزيف حايك، والمجلس القاري الأميركي عاطفة تقدير ومحبّة، ويعتبرها تشجيعاً للأدب والشعر في عالـم الإنتشار اللبناني، وهو لا يؤمن بألقاب الإمارة والرئاسة في الأدب والشعر، ولكنها عاطفة من قبل شخص لا يعرفه، ولا يستطيع إلاّ أن يشكره".
لقد حاول شربل جاهداً أن يستبدل لقب (أمير) برسالة تقدير، كما ذكرت آنفاً، ولكن قرارات المجلس القاري يجب أن تنفّذ، وقد نُفّذت، فما كان من شربل إلاّ أن خضع لمشيئة المجلس، وتقبّل صكّ الإمارة بفرح واعتزاز، وهل بإمكان الْمُكرَّم أن يرفض حبّ مكرميه؟.. وهل بإمكان الوردة أن ترفض حبيبات المطر بعد جفاف طويل؟.. إنه الشكر الأكبر المتبادل بين مؤسسة اغترابيّة رائدة، رئيسها أديب كبير، وبين شاعر أعطى الغربة دون منّة.
ورغم تفشّي الأنانيّات في مجتمعات اليوم، نجد أن شربل قد عمل المستحيل من أجل تكريم زملائه الأدباء والشعراء، وأعتقد أن سرّ نجاحه الدائـم يكمن في تواضعه، ونكران ذاته، وحبّه للآخرين، واندفاعه في سبيل إعلاء شأنهم وتكريمهم. وهذا ما تثبته رسالته المؤرّخة في الرابع من تشرين الثاني عام 2000:
"رئيسنا القاري الأستاذ جوزيف حايك المحترم..
تحيّة اغترابيّة مخلصة وبعد،
ضحكت وأنا أقرأ في ختام رسالتك الأخيرة أنك أصدرت كتباً عدّة، لأنني كنت أشعر في داخلي أن من يعمل على تكريم الأدباء لا بد أن يكون من طينتهم.
غيرك، يا أخي جوزيف، يتلهّى بتناول الكبّة النيئة، والحمّص بطحينة، والتبّولة، والبابا غنّوج في حفلات الجالية، وأنت تتلهّى بزرع المجد اللبناني في الأقطار الخمسة.
صدق المثل اللبناني القائل: لا يحنّ على العود إلا قشره. وصدق المثل القائل: يا الذي مثلنا تعال لعندنا. فأنت مِثْلنا يا جوزيف، وأنت مَثَلُنا الأعلى، وبئس من لا يأخذ بيدك لتكمل مشوار المجد. أنا معك بقلبي وقالبي وقلمي، وتهنئتي القلبيّة لكل من تختاره الجامعة من أدباء وشعراء الإغتراب لإمارة الحرف. فالكل تعب في غربته، والكل بحاجة إلى يد تنشلهم من ضياعهم الإغترابي، وهل أفضل من يدك وأيدي رفاقك في الجامعة؟. لا واللـه".
لقد وزّع شربل جائزته السنويّة على العشرات من مبدعي الجالية، ونشر صورهم على غلاف مجلّته ليلى، لا لشيء سوى توجيه الشكر لهم على عطاءاتهم المتواصلة في سبيل إعلاء شأن أبناء جلدتهم في هذا المغترب. فكيف لا يلتفت إليه المجلس القاري، وكيف لا يفاجئه باختياره للإمارة. وهذا ما تظهره هذه الرسالة المؤرخة في السادس عشر من شهر تشرين الثاني 2000:
"صديقي العزيز، مفبرك الأمراء، الأستاذ جوزيف حايك.
تحيّة المحبّة والإحترام أرسلها إليك من تحت الأرض.. من أستراليا.
لقد وصلتني المفاجأة الحلوة، ووصلني حبّك وحب الإخوة في المجلس القاري، فأشرقت شمسي رغم رداءة الطقس عندنا، وراحت التهاني تنهمر عليّ من كل من عرف بالخبر، وخاصة الأهل في كندا، فلقد وصلني عدد النهار ـ الأخبار يوم وصول طردك البريدي، وقرأت مقالك عن أدبنا في الإرجنتين، فأعجبني كثيراً، وأدركت مدى اهتمامك بنا كأدباء منتشرين في القارات الخمس، فألف شكر لك.
اليوم صدرت صحيفة البيرق وعلى صفحتها الأولى، وبالألوان، خبر الإمارة. وسأرسل لك تباعاً كل ما يصدر هنا وفي لبنان حول الجائزة المشرّفة التي زيّنتم غربتي بها".
وقد أرسل له شربل كل ما نشر في الصحف والمجلاّت، أو أذيع عبر الأثير، مدحاً كان أم ذمّاً، غير عابىء بشيء، همّه أن يطلع المجلس القاري ورئيسه على كل كلمة قيلت حول إمارته الأدبيّة.. "المهم أن تبقى الديموقراطيّة مرفوعة اللواء في المغتربات، وإلاّ تحوّلنا إلى الأنظمة القمعيّة" كما جاء في رسالة أرسلها شربل للمجلس القاري بتاريخ 15 كانون الأول 2000، وقد أعجب الدكتور حايك بصدق شربل، وبجرأته اللامتناهية.. وطالبه بمتابعة مسيرته الأدبيّة دون الإلتفات إلى الوراء، أو التعثّر بكلمات منتقديه، فالأدب كالشمس، تنير الكون أجمع ولو شتمها جميع سكّانه. وكرّر، جازماً، أنه "بالفخر، كل الفخر، انتخبنا أمير الأدباء سمو الأمير شربل بعيني".
وكما فعلت البيرق التي نشرت الخبر على صفحتها الأولى، في عددها 1823، الصادر في 16 تشرين الثاني 2000، فعلت، أيضاً، مجلّة أميرة في عددها الثاني عشر عام 2001، ونشرت صورة شربل وزوجته ليلى على غلافها الملوّن، وتحتها هذا العنوان المثير: (أميرة تستفتي حول الأمير شربل بعيني). وقد استفتى رئيس تحريرها الشاعر شوقي مسلماني العديد من فعاليات الجالية وأدبائها وشعرائها، فأجمع الجميع على أحقيّة شربل بالإمارة، لا بل طالب رئيس الجامعة الفلسطينيّة في أستراليا السيّد حيدر سعيد بأن تكرّم الإنتفاضة شربل بعيني بجائزة مماثلة:
"يكفي شربل بعيني فخراً أنه كتب قصيدته الرائعة الأخيرة عن انتفاضة شعبنا في الأرض المحتلّة.. وأنا أتمنّى أن تصل هذه القصيدة إلى شبابنا هناك ليعرفوا حجم التضامن معهم عالمياً. أكثر ما أقرأ نتاج شربل في مجلّة أميرة التي تقف إلى جانب شعبنا الفلسطيني بشجاعة نادرة. أقول ألف مبروك للشاعر شربل بعيني، وأتمنى أن تكرّمه الإنتفاضة بجائزة مماثلـة".
ومن المقالات الكثيرة التي كتبت حول الإمارة، أختار هذه المقتطفات من مقال رائع نشره الأستاذ طوني سمعان الشيخ في جريدة البيرق، العدد 1827، الصادر في 25 تشرين الثاني 2000:
"قد يكون شربل بعيني ضد الزعامات والملوك والأمراء. قد يكون ضد الألقاب، ضد التمييز، وضد التشاوف.. فمن زرع الأخلاق السامية في عقول الأجيال الإغترابية الصاعدة، يكره كل ما يسيء للآخرين، وكل ما تمجّه الأخلاق، ولكن لقب (أمير) منذ أحمد شوقي، وانتهاء بالأخطل الصغير، قد أرثى القواعد الصحيحة لأدب صحيح، أقل ما يقال فيه إنه صادق".
وقد لا أجد أجمل من هذه الأبيات الزجليّة التي أهداها الشاعر روميو عويس لشربل، ونشرها في جريدة البيرق، العدد 1855، الصادر في 8 شباط 2001، كي أختم بها كلامي:
يللّي الكلمه من صغر سنَّكْ
حبّيتها، وصار الشّعر فنّك
وتكبر، وشعرك يمتن ويكبر
غار الفضا.. وغار الجبل منَّكْ
بتبقى الجواهر قد ما تكتَرْ
ع سعرها.. وجوهر لأنَّكْ
بيشعر بحالو الحكي مقصَّرْ
مهما انحكى.. ومهما انكتب عنَّكْ
**